مشكلاتنا في مواجهة الإلحاد
فلا بد أن تتسم الدعوة بالوثوقية العالية في خطابها وأن يكون لها نزعة هجومية تكشف من خلالها الإشكالات والثغرات القلقة الهشة التي تبني عليها التيارات الفكرية المعاصرة باطلها ..
اختيار المواضيع
فلا بد أن تتسم الدعوة بالوثوقية العالية في خطابها وأن يكون لها نزعة هجومية تكشف من خلالها الإشكالات والثغرات القلقة الهشة التي تبني عليها التيارات الفكرية المعاصرة باطلها ..
إن أعراض هذا المرض لا تكون في الغالب إعراضا مباشرا أو اعتراضا صريحا عن الخضوع لحكم الله ورسوله، بل تفعل النفس فعلها و يعمل الهوى عمله لتزيين القول الباطل وتسويغه وترجيحه بل قد يتعدى الأمر ذلك الى معاداة الحق وأهله، وكل ذلك دون أن يستشعر صاحبه ما هو عليه ..
إن للقرآن الكريم بحق أسلوبا تعبيريا معجزا في رصف المعجم والتركيب والصور لخدمة المعاني، ثم رصف هذه لتحقيق مقاصد دلالية ونفسية محددة ..
إنه من السهل أن تقنع من تعطلت قواه التفكيرية، وآلياته العقلية؛ بأن يشك في العواقب، بل بأن ينفيها وذلك عن طريق تمييع النتائج، وتمويه الأحداث، أو عن طريق تضخيم فكرة المساس بالشرع..
إنّ ثقافة ما بعد الحداثة تعمل بكلّ أجهزتها على إخضاع الناس للاعتقاد بعدم وُجود حقيقة مطلقة وموضوعيّة، وتقوم على إجبارهم على المساواة والتّسامُح المُفرِط مع الجميع، الذي لا يقِف عند احترام حقّ الاختيار فقط بل الاحترام والمُداهَنة وعدم المساس بحقّ الآخر في الكُفر والفُجور بأمرٍ أو نهي. فنحن أمام جِهازٍ ثقافيّ يسلِب منّا حقّ الاستعلاء الإيماني كونُنا على حقّ، ويسلب من قلوبنا كلّ مُمانعة، ويعمل على جعلِنا نتطبّع مع الشذوذ عن الفطرة.
لا يختلف اثنان أن من أهم المحركات للإنسان نحو العمل الصالح ومعالي الأمور هو وجود "قدوة حسنة" ماثلة أمام عينيه، يهتدي بهديها ويستن بسنتها.
متى نجد إبداعا ذاتيا، ينبع من تاريخ الأمة وهويتها وثقافتها، ويعالج واقع الناس بما يحمله من حمولة رسالية، بعيدة عن أهواء الغرب، ورغبات السوق؟
ذلك أن من كان يؤمن باليوم الآخر وما فيه من المواقف الصعبة والمهولة، سهل عليه فعل الخيرات وترك المنكرات..
وزاد الطين بلةً غياب وتغييب المشايخ الصادقين الذين كتب الله لهم القبول والرفعة في نفوس الناس، وذلك إما بسجنهم أو محاربتهم أو إسكاتهم، فخلتْ الساحة الإعلامية تقريباً لمشايخ السلطة الذين يتوجس منهم العامة قبل الخاصة..
فهؤلاء هم أسلاف من يدعو اليوم إلى رفع التجريم عن كل العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، من شذوذ وزنى، محصن وغير محصن، فعُلم أن هذه الدعوة ليست جديدة، فقد سبقهم المزدكية إلى الفسوق والإباحية، وإلى الفجور والفوضوية، وإلى الفساد والشهوانية..
لا شك أن موجة الإلحاد الجديد بمؤسساته الداعمة خلقت نوعاً من رد الفعل داخل الصف الدعوي..
والغريب أننا نجد شريحة كبيرة أهل الدعوة ومن أبناء العمل الإسلامي يستهينون بخطورة هذه الموجة، ونجد أيضاً ممن بادروا إلى التصدي للموجة اختلالاً في توازن الخطاب، وهذا ما سنتطرق له.
الاستخفاف بأهمية التصدي للإلحاد:
لا بد أنك سمعت يوما مقولة: “لا تضخم من خطورة الإلحاد إنه تافه.. مجرد شهوات تبتلع شباباً طائشاً”، أو: “أمت الباطل بدفنه”، والقائمة تطول من مقولات تنتشر بكثرة بين صفوف المسلمين يراد منها غالباً خلق ذرائع للتهوين من مشكلة الإلحاد والهروب من معالجتها.
وفي نظري؛ أن ذلك راجع بالأساس إلى قياس خاطئ يعتمد عليه أصحاب هذه المقولات، قياس يقاس به أهمية التيار الفكري -الإلحاد الجديد نموذجا- من عدمه، والمقصود هنا القياس بـ: “هذا تافه وهذا غير تافه”؛ بينما الأصح أن نقيس بـ: “هذا رائج وهذا غير رائج”. (1)
إذ لا ينكر عاقل من أهل الحق أن تيارات الكفر تجتمع جميعها في البطلان وضعف الحجة وهي في ذلك سواء، ولكن المسلم الفطن يتحرك حسب متطلبات الساحة الفكرية، والأهم من ذلك أن يتحرك حسب ما يستهدف عقول المسلمين.
سئل الإمام مالك عن مسألة فقال: “لا أدري”. فقال له السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أن أُعلم بها الأمير -وكان السائل ذا قدر-، فغضب مالك وقال: “مسألة خفيفة سهلة؟! ليس في العلم شيء خفيف”. (2) فسطر لنا الإمام مالك رحمه الله قاعدة من ذهب بقوله: “ليس في العلم شيء خفيف”!
ولو استعملنا منطق: “هذا خفيف وهذا ثقيل”، لقلنا: لماذا يكثر القرآن الكريم من مجادلة عبدة الأوثان؟ أليست عقيدة عبادة الأوثان عقيدة ضعيفة (خفيفة)؟!
ولو كنا سنستعمل منطق ربط الكفر بالشهوات لاستغربنا مجادلة القرآن الكريم لإبطال عقيدة الشرك بالأدلة. ولكن المتأمل يعلم أن القرآن جادل أهل الشرك في عقيدتهم لأن الشرك في زمن تنزّلات الوحي كان “رائجا” كما أسلفنا، ولو سافرنا إلى الهند مثلا أو إلى بعض مناطق أفريقيا لوجدنا فيها الوثنية رائجة كما كانت في بلاد العرب قبل البعثة.
فالأمر إذن يختلف بين الزمان والمكان وهذا ما ينطبق على الإلحاد أيضا.
يقول الدكتور عبد الله بن سعيد الشهري: “الإلحاد حالة إدراكية لم تتمتع بأي رسوخ نوعي في الوعي الجمعي الإنساني؛ فهي حالة تعاود الظهور كزعانف سمك القرش وسط بحر الدين الهادر”. (3)
فالواجب على المسلم أن يدرك أهمية قضية الإلحاد في الدعوة الإسلامية، والحقيقة أننا أمام عمل غير عشوائيّ يعتمد على الجهود الذاتية الفردية فقط، بل ثمة مؤسسات إلحادية معنيّة بالدعوة إليه، ورعاية أهله الملحدين (4)، نحن أمام إلحاد هائج يعتبر أن قضية الإيمان والتدين باتت مهدداً حقيقيا للبشرية، وأنه من المتعين على الملاحدة اليوم استئصال مبدأ التدين من الحياة البشرية! (5)
الاكتفاء بالمدافعة:
ومن بين العوائق التي تعترض طريق الدعوة اليوم: أزمة غلبة “نزعة الدفاع” على “نزعة الهجوم” في سجالاتنا مع التيارات الفكرية المعاصرة، والمقصود هنا بالنزعة الهجومية: المبادرة إلى تفكيك وهدم التيارات المخالفة بدلاً من انتظار انتشار الشبهات للرد عليها، فنحن نرى أن اللون المنتشر لدى عامة المنابر الدعوية -من قنوات وصفحات وغيرها- هو انتظار ما سيرميه الطرف المخالف من شبه للتصدي لها، نعم هذا أمر طيب في أصله وفي ذاته، ولكن دون أن يكون على حساب تأسيس النقد التفكيكي الذي يجتث منابع هذه الشبهات من جذورها.
يقول الدكتور عبد الله العجيري: “مما ينبغي مراعاته في سجال الإلحاد أن لا يكون موقف المنتصر للموقف الديني انهزامياً مكتفياً بالمدافعة فقط، بل ينبغي أن يكون منطلق المؤمن في جدله من تصور عقدي صلب يستحضر في نفسه معنى قوله تعالى: “أفي الله شك فاطر السموات والأرض”، فالقضية التي يدافع عنها ليست قضية هامشية أو ظنية بل هي أم اليقينيات الدينية، وأحد المعاني الفطرية”. (4)
هذا لأن غلبة الدفاع على الهجوم في سجلاتنا، قد يفرض على الدعوة أن تعالج قشور الأفكار؛ ذلك لأن طبيعة أعداء الإسلام -من ملاحدة جدد وغيرهم- أنهم يركزون في شبهاتهم على مظاهر الإسلام -إلا قلة قليلة- (5) فالاكتفاء بالرد على مثل هؤلاء يؤدي إلى حبس الحجة الإسلامية داخل دائرة ضيقة اختارها الطرف الآخر بجهله.
فلا بد أن تتسم الدعوة بالوثوقية العالية في خطابها (6) وأن يكون لها نزعة هجومية تكشف من خلالها الإشكالات والثغرات القلقة الهشة التي تبني عليها التيارات الفكرية المعاصرة باطلها، وأن لا نكتفي دائما بالبقاء في مربع الدفاع فتصير إنتاجاتنا الدعوية مرهونة بعدد الشبهات التي يطلقها الطرف الاخر. إننا عندما نمتلك مبادرة الهجوم على التيارات الفكرية المعاصرة نكشف فشلها في بناء أخلاق موضوعية وعجزها في إثبات وثوقية العقل (7) فنجتثها من جذورها.
“وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين”.
(1): د. سامي عامري، محاضرة ترشيد الحالة السجالية في الملف الإلحادي: https://youtu.be/N5CExRPcdRs
(2): من ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك (1/72).
(3): ثلاث رسائل في العلم و العقل و الإيمان ص: 15
(4): ميليشيا الإلحاد، ص:147
(5): وذلك لأن حقيقة الإسلام أساسها متين وخطاب أدلتها قوي رصين، فلا يستطيعون تناولها بسوء؛ وإلا دمغتهم بحجتها، وأطفأت باطلهم بناصع ضوئها، من آيات واضحات الدلالة وأحاديث تنفي الجهالة؛ فلا يسمع كلامهم فيها إنسان -أنّى كانت مقدراته العقلية والعلمية- إلا تعجب من جهلهم وتدليسهم، هذا صريح قول الله تعالى فيهم: “ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً”.
(6): ميليشيا الإلحاد، د. عبد الله العجيري ص: 35
(7): نفس المصدر، ص: 61
التعليقات