المحبة اتِّباع


كريمة دوز
المحبة اتِّباع

يحيا المسلم المعاصر تحديات كبرى أثَّرت على تصوراته وميولاته الفكرية، فنحى البعض من شباب الأمة منحا يخالف الهدي المحمدي في النظر إلى الحياة عموما ولموقعهم في الكون خصوصا، فَفَخارُ المسلم بدينه واعتزازه بالانتساب للإسلام تلاشى في نفوس من ران على قلوبهم الهوى والسعي للتَّأسي بالآخر المخالف في العقيدة والدين، وصار المحك الذي يثبت قربنا من المحجة البيضاء هو حقيقة اتباعنا للنبي، ولزومنا للوحي في صغير الأمور وكبيرها، دقيقها وجليلها، في أن نأخذ بالكتاب العظيم كله لا بعضه، حتى لا ندخل في أولئك الذين قال فيهم الحق سبحانه: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (البقرة: 85).

فالمسلم الحق من استمسك بكتاب الله وسنة نبيه، وكان من الصفوة التي اتخذت من السبيل المحمدي مسلكا في الحياة، فكان شعارها ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (يوسف:108)،  والسير على البصيرة لا يكون إلا بالاتباع واقتفاء الأثر النبوي في معرفة الله تعالى وحبه سبحانه.

 وحب الله لا يتأتى إلا للصادقين في الاتباع، فهو القسطاس والميزان الذي نزن به تمام محبتنا لله جل جلاله، والمضي على نهج خير الورى والتسليم بما جاء به هو بوصلة كل من قال ادعاءً “إني أحب الله”، فلزم محبة الله اتباع النبي، لذلك عد ابن قيم الجوزية أن رأس الأدب معه: “كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل، يسميه معقولا، أو يحمله شبهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال، وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما وحد المرسِل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل، والإنابة والتوكل”([1]).

فمن كان في قلبه مثقال حبة من شك أو ريب مما جاء به النبي فهو لم يسلم به تمام التسليم، لأن الحق قال: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ (النساء: 80)، ثم إن المؤمن الحق من لا خيرة له بعد أمر الله ورسوله ، لقول الله جل وعلا: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (الأحزاب: 36).

وماذا بعد الضلال إلا شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، وما ضلال بعض الناس إلا ببعدهم عن الهدى النبوي، فالظلمة والضنك والضيق الذي طوق القلوب وأعمى البصائر علته وثيقة بالانحراف عن نور الوحي ومقام الاتباع، والنفوس كما يقول ابن تيمية “أحوج إلى معرفة ما جاء به واتباعه منها إلى الطعام والشراب، فإن هذا إذا فات حصل الموت في الدنيا، وذاك إذا فات حصل العذاب”([2]).

ثم إن في القرآن ما فيه دلالة صريحة بأن عدم الاستجابة للنداء المحمدي موات للإنسان، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (الأنفال: 24)، فدعوته حياة وهدى ورشاد، إنها دعوة لروح الفطرة وللتوحيد الذي أنزلت به الكتب وأرسلت لتبليغه الرسل، ولا نجاة لمن سلك غير سبيله ولم ينهل من مشكاته.

  • صدق المحبة بتمام الاتباع:

 وإذا كانت سمة العصر مادية خالصة، فإن تنزيل ما كان عليه النبي في حياة مسلم العصر وإحياء روح الاتباع وتجديد الوصل بسيرته العطرة سيعيد من ضل الطريق إلى سواء الصراط، وسيُنبت جيلا عرف نبيه فاغترف من حوضه ما يسمو به عن دركات الدنيا، لما لا ولله قد هدى الناس ببركة نبوة محمد، وبما جاء به من البينات والهدى، هداية جلت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين عموماً، ولأولي العلم منهم خصوصا، من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة والسنن المستقيمة، ما لو جمعت حكمة سائر الأمم، علما وعملا، الخالصة من كل شوب، إلى الحكمة التي بُعث بها، لتفاوتا تفاوتا يمنع معرفة قدر النِّسْبَةِ بينهما “([1]).

فمسك المحبة ولبابها اتباع النبي، وليس أعظم من كتاب الله برهانا، ومن كلامه بيانا على ضرورة الاحتذاء برسول الله، يقول الحق سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)﴾ [سورة آل عمران آية 31]، فالله تعالى جعل محبته موصولة باتباع النبي، لذلك يقول ابن تيمية: “جعل الله تعالى محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول، وجعل متابعة الرسول سببا لمحبة الله عبده”([2])، ولا سعادة له، ولا خلاص إلا باتباع الرسول.

وإذا كانت المحبة كما عرّفها السالكون “بذل المجهود، وترك الاعتراض على المحبوب”([3])، كان اتباعه دليلا على محبة الله، لأن كمال المحبة بعدم الاعتراض على ما أمر به الله عباده،  ومن انتهى إلى أن يحب الله سبحانه وتعالى فليتبع هذا النبي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى (فمن اتبعه أحبه الله)، فقامت بذلك الحجة على كل قاصد وسالك، ومتقرب، فإن نهاية الخلق أن يحبوا الله، وعناية الحق أن يحب العبد، فرد سبحانه وتعالى جميع من أحاط به الاصطفاء والاجباء والاخصاص، ووجههم إلى وجهة الاتباع لحبيبه الذي أحبه([4])، كما قال صلى الله عليه وسلم: ” والذي نفسي بيده لو أن موسى كام حيا ما وسعه إلا أن يتبعني”([5]) وإذا كان ذلك في موسى عليه السلام كان في المنتسبين لملته ألزم.

يقول الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية: “”من آثار المحبة تطلُّب القرب من المحبوب والاتصال به واجتناب فراقه. ومن آثارها محبة ما يسرّه ويرضيه، واجتناب ما يغضبه، فتعليق لزوم اتباع الرسول على محبة الله تعالى لأن الرسول دعا إلى ما يأمر الله به وإلى إفراد الوجهة إليه، وذلك كمال المحبة”([1]).

وتفصيل هذا القول أن الآية مشتملة على أن الإلزام من وجهين (أحدهما) إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، لأن المعجزات دلت على أنه تعالى أوجب عليكم متابعتي (الثاني) إن كنتم تحبون أن يحبكم الله فاتبعوني لأنكم إذا اتبعتموني فقد أطعتم الله، والله تعالى يحب كل من أطاعه، وأيضا فليس في متابعتي إلا أني دعوتكم إلى طاعة الله تعالى وتعظيمه وترك تعظيم غيره، ومن أحب الله كان راغبا فيه، لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية عن غير المحبوب([2]).

فمن سمات المحبة إذن وعلاماتها متابعة الرسول ، “فعلامة المحبة الصادقة لله ورسوله هي اتباعه ، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر، إذ لو كان محبا له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة”([3]) .

ففي قوله تعالى: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ ” حكم على من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: ” من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد”.

فالمحبة إذن توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض عن غيره. فمن ادعى محبته سبحانه وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب([4])، فكان من جميل صور الاتباع أن يكون هوى المنتسب محمديا خالصا، فقد  أخرج الأصبهاني في الترغيب عن ابن عمر قال: ” قال رسول الله H: لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعا لما جئتكم به”([5]) .

  • وقفات من صدق اتباع الصحابة للنبيﷺ:

والناظر في حياة الصحابة رضوان الله عليهم وما كانوا عليه من انقياد تام وتأس سابغ يدرك أن ما كانوا عليه من نور البصيرة وكمال الإيمان مَوُصولٌ بصدق محبّتهم لله تعالى، وصور هذا الانقياد عظيمة تَتْرى في سيرة رسول الله، جليلة المعاني لمن يفقه ويبصر بقلبه، فأحوال الصحابة رضوان الله عليه مع كلام رسول الله مدرسة لمن أراد أن يَعي لُبَّ الاتباع، وتمام المحبة ومقام النبوة في نفوس من بذلوا الغالي والنفيس لنصرة الدين، وفيما يلي غيض من فيض أمثلة صدق اتباع الصحابة رضوان الله عليهم:

فعن سالم بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان عمر رجلا غيوراً، فكان إذا خرج إلى الصلاة اتَّبَعَتْه عاتكة بنت زيد فكان يكره خروجها، ويكره مَنعها، وكان يُحدِّث أن رسول الله قال: “إذا استأذنتكم نساؤكم إلى الصلاة، فلا تمنعوهن” (أخرجه أحمد)، فعمر رضي الله عنه رغم كراهة نفسه خروج زوجته إلى الصلاة إلا أنه قدم كلام رسول الله على نفسه، وهذا لعمري صورة عظيمة من صور الانقياد وطواعية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: بينما أنا جالس عند النبي، إذ أتاه رجل فسلَّم عليه، ثم ولى عنه، قلت: يا رسول الله، إني أحب هذا في الله، قال: (فهل أعلمته ذاك؟)، قلت: لا، قال: (فأعلم ذاك أخاك)، فاتَّبعته فأدركته، فأخذت منكبه، فسَلَّمت عليه، وقلتُ: والله إني لأحبك لله، قال هو: والله إني لأحبك لله، قلت: لولا أن النبي أمرني أن أُعلمك، لم أفعل” (أخرجه ابن حبان).

فهذا المشهد فيه من جمالية السبق والمسارعة إلى العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلَخِّص لنا مقام الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه رضوان الله عليه، فَحُقَّ لهم أن يفوزوا بمنزلة الصحبة الخالصة له صلى الله عليه وسلم.

ومن المقامات السامقة في الاتباع هذا الموقف البديع للصحابيات رضي الله عنهن الذي حدثنا به ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت مع رسول الله العيد، فصلى وخطب، ثم أتى النساء فوعظهن، وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن يدفعن إلى بلال” (متفق عليه).

ولعل هذه الأمثلة تُبِين لنا أن صدق محبة الله تعالى موصول باتباع رسول الله صلى الله عليه سلم، والعمل بما جاء به، ثم إن النفوس الصافية المخلصة لا ترى في أمر الله تعالى ورسوله إلا النجاة والفلاح، وعروج الروح إلى منازل السائرين إلى الله حقًّا وقلوبهم تنطق إذا مَرُّوا بكلام الله ورسوله “سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”.

فالمحبة الحقة اتباع وتأس بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، وكمال هذه المحبة لا يكون إلا بتمام اتباعنا له صلى الله عليه وسلم، ثم إنَّ من سلك طريقه ومضى على نهجه يُسِّرت له سبل الهدى والصلاح وفاز الفوز العظيم مصداقا لقول الحق سبحانه: “وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا” (الأحزاب: 71).

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد


([1] ) مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية،  دار ابن الجوزي، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى، (1433هـ-2012م)، ج(2)، ص(109).
([2] ) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، دار ابن حزم، بيروت-لبنان، الطبعة الرابعة، (1436هـ-2011م)، ج(1)، ص(8).
([3] ) اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، تحقيق: ناصر بن عبد الكريم العقل، دار الفضيلة، الرياض-السعودية، الطبعة الأولى، (1424هـ-2003م)، ص(53-54).
([4] ) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج(1)، ص(8).
([5] ) مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية،ج(2)، ص(228) ([1] ) مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية،ج(2)، ص(228)
([6] ) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة-مصر، (بدون طبعة)، (بدون تاريخ)،ج(4)، ص(333).
([7] ) البداية والنهاية، ابن كثير، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، (1988م)، ج(1)، ص(185).
([8] ) التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، (بدون طبعة)، (1984م)، ج(3)، ص(228).
([9] ) مفاتيح الغيب، الفخر الرازي، ج (8)، ص(19)
([10] ) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، دار عالم الفوائد، جدة-السعودية، (بدون طبعة)، (بدون تاريخ)، ج(1)، ص(327).
([11] ) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، برهان الدين البقاعي،ج4، (333)
([12] ) الدر المنثور في التفسير المأثور، عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت-لبنان، (بدون طبعة)، (2011)، ج2 ص (178).



سجل تفاعلك مع المقال
Love
Wow
Sad
Angry
تم تسجيل تفاعلكم مع "المحبة اتِّباع" قبل بضع ثوان
Show Comments (0)

التعليقات

مقالات ذات صلة

القرآن

ترياق السعادة

“من أراد السعادة الأبدية...

تحرير كريمة دوز يوم
الفكر

في غياب الفضل .. مساواة أم إنصاف؟

إن الحديث عن مساواة المرأة بالرجل حق يقصد به باطل، وتسوية مآلها الظلم والإجحاف، بل منطقيا هو من باب طلب تسوية المتغايرات والمتقابلات، كمن يحاول مساواة الليل بالنهار، والأبيض...

تحرير ذ. وصال تقة يوم