فلسفة الاهتداء

شيء واحد يسمعه الإنسان ألف مرة، وفي كل مرة يأبى أن يقبله، ولكن يأتي عليه حين ينفتح فيه قلبه المغلق دفعة واحدة لذلك الشيء نفسه، فبينما كان هو لا يجتاز أذنيه من قبل، إذا به الآن ينفذ إلى أعماق قلبه.


صفية الودغيري
فلسفة الاهتداء

إذا أدرك الإنسان الكيفية الصحيحة في التأثُّر والتَّأثير، وأحاط بصنائع الخير والمعروف وما يقيه مصارع الشَّر والسُّوء، وأبصر بما يرفع عنه حجاب جهله، انزاح عن بصيرته التعتيم واسوداد غِوايته، وتهيَّأ لإرادته إِعْمال الفكر ونشاط الحس وتوقُّد الذهن لاستقبال ما يتوارد عليه من الخواطر والأفكار، وتمكَّن من سبر أغوار بواطنه الداخليَّة والنفسِيَّة، وأسباب ما يعتريه من الإعراض والإنكار، أو الإيجاب والقبول، وما يجعل صدره منشرحًا، وما بجعله ضَيِّقًا حَرِجاً كأنما يصَّعد في السماء، فيمهِّد له ذاك كله أن يقوِّي قدرته على ركوب الأخطار، جِهادًا في سبيل طلب الحقِّ والعمل به، وتحمُّل دواعي الغيِّ ومجاهدة نفسه، والصَّبر على مشاقِّ الطاعة، وبثِّ سلطان محبَّتها في قلبه، وَتثبيت فروع شجرتها في أرضه، ووصل جذورها بجوارحه لتطعم من ثمراتها الطيبة، وكما قال ابن قيم الجوزية : <<فإِنَّ محبَّة الشَّيء وطلبه والشَّوق إليه من لوازِم تصَوُّره، فمن باشر طيب شيء ولذَّته وتذَوَّق به لم يكَد يصبر عنه، وهذا لأنَّ النَّفس ذَوَّاقة تَوَّاقة فإِذا ذاقت تاقت، ولهذا إذا ذاق العبد طعم حلاوة الإيمان وخالطت بشاشته قلبه رسخ فيه حبّه، ولم يُؤثر عليه شيئا أبدا وفي الصَّحِيح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه المرفوع: (أنَّ الله عزَّ وَجلَّ يسأل الملائكة فيقول: ما يسألني عبادي، فيقولون: يسألونك الجنَّة، فيقول: وهل رأوها، فيقولون: لا يا رب، فيقول: كيف لو رأوها، فيقولون: لو رأوها لكانوا أشدَّ لها طلبا)، فاقتضت حكمته أن أَراها أباهم وأَسْكَنه إيَّاها ثم قصَّ على بنيه قصَّته، فصاروا كأنَّهم مشاهدون لها حاضرون مع أبيهم، فاستجاب من خُلِق لها وخُلِقَت له، وسارع إليها فلم يُثْنِه عنها العاجلة بل يعدُّ نَفسه كأنَّه فيها، ثمَّ سَباه العدو فيراها وطنه الأول، فهو دائم الحنين إلى وطنه وَلَا يقرُّ له قرار حتى يرى نفسه فيه كما قيل:

نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِن الهَوى    مالحُبُّ إلاّ للحَبيبِ الأوَّل
كَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفَتى   وحَنينُهُ أبداً لأوَّلِ مَنزِلِ

ولي من أبيات تلم بِهذا المعنى:

وحيَّ على جنَّات عدن فَإِنَّهَا    منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل  ترى   نعود إلى أوطاننا ونسلم>>[1].

أما من تعلَّم أن يرى نفسه على حالة وصورة واحدة تحدِّد وجوده، فلن يصدِّق إلا ما يظهر له من صُوَر أقواله وهيئات أفعاله، وسيحتويه العُجب بحُسنه داخل إساره الزُّجاجي الهش، فيتوهَّم أنَّه ماض على جادَّة الطريق الحق، وبالغٌ ثريّا الكمال والتمَّام، فيُؤخذ كلامه ولا يُرد، وفي سلوكه لا يُعاب ولا يُلام، وفي تصرفاته لا تشينه الخَوارم ومساوئ الأفعال، حتى يتصَوَّر أنه ارتقى وتسامى عن غيره في الشأن والمقام، ولا يجري عليه ما يجري عليهم من اضطراب الأحوال، ولا يضع أقواله وأفعاله في ميزان المراقبة والمحاسبة.

وأما من أناب إلى الله تعالى وسلك طريقه، واستعان بمن يهديه ويعينه على الوصول إليه، ويرشده ويلقِّنه كلمة الحق ويبلِّغه المعرفة الصَّحيحة، سيدرك غاية الاهتداء كما أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذاك السراج المنير فقال: (المؤمن مرآة أخيه، المؤمن أخو المؤمن يكفُّ عليه ضيعتَه ويحوطه من ورائه).

وأما من استكبر عن الإنابة إليه، وقصر عن إعمال ملكات العلم، وقوة التَّمييز والفهم، والفراسة والبصيرة، ولم يستخدم وسائل اكتساب العلوم والمعارف، فلن يرى إلا رأي العين الضيقة القاصرة عن تمييز قوى الهداية من قوى الضلالة المتعارضة.

وقد يبَّن الحق سبحانه في آياته أسرار اهتداء الإنسان وكيفياته كما في قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)) [2]‏. وقوله تعالى:(فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125))[3]‏.

وبيَّن كيفية ضلاله كما في قوله تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْنُفُورًا (46)) [4]‏. وقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93)) [5]‏.

وقد اجتهد أبو الأعلى المودودي في شرح فلسفة الاهتداء من خلال التأمل في انطباعات وأحاسيس نفسية تختلف باختلاف الناس في الكيفية والتَّأثير والتأثُّر، وبين أن ليس اختلافها مما يثير الحيرة والعجب، ولكن الذي يثير الحيرة والعجب أن رجلا واحدا بعينه تكون انطباعاته وأحاسيسه بشيء واحد مختلفة في مختلف الأوقات. فشيء واحد يسمعه الإنسان ألف مرة، وفي كل مرة يأبى أن يقبله، ولكن يأتي عليه حين ينفتح فيه قلبه المغلق دفعة واحدة لذلك الشيء نفسه، فبينما كان هو لا يجتاز أذنيه من قبل، إذا به الآن ينفذ إلى أعماق قلبه. وكذلك نرى رجلا واحدا يتفق له غير مرة أن يرى المنكوبين ولكن لا يلتفت إليهم ولا يبالي بنكبتهم، على أن هذا الرجل نفسه يمتلئ قلبه رحمة وشفقة في ساعة خاصة برؤية غيره قد نزلت به المصيبة، ويتمزق ما يكون فيه قلبه من غلاف القساوة حتى يصبح من أكثر الناس مواساة ورحمة وعطفا على غيره، وكذلك نرى رجلا واحدا يتفق له أن يرى في حياته عدة مناظر مؤلمة، فيها العبرة لأولي الأبصار، فهو مرة ينظر إليها كأنه يتلهى بمنظرها، ومرة أخرى ينظر إليها بنظرة ملؤها الأسف والحزن، ومرة ثالثة ينظر إليها بنظرة تؤثر فيه بصفة دائمة. فهذا هو السر في اهتداء الإنسان إلى صراط الله المستقيم أو ضلاله عنه..[6]  

وما أعمق ذاك الشرح لفلسفة الاهتداء في مقالة أبي الأعلى المودودي، حيث يدرس الحالة التي تنشأ عن هداية الفطرة والجبلة التي جبل عليها، وأودعها قوى الخير التي تعينه على معرفة الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، وتعينه على ردع قوى الشر عن طريق اكتساب العلم والارتقاء في مدارجه المتعددة، والتربية والتهذيب بكيفياته المتنوعة، وفي هذا الشأن يقول: <<كان الإنسان في الدنيا لا تنفك تعمل فيه قوة الهداية الفطرية وقوة الضلالة المفروضة عليه من الله تعالى على صورة غير محسوسة، تدعوه هذه إلى الصراط المستقيم بإشارات لطيفة، وترغبه تلك في زخرفة الباطل، وتزينه في نظره وتلهيه بمظاهره الخلابة، فهو تارة يتأثر بعوامل الباطل ويستعين بما تحت إرادته من القوى بطريق فاسد، فيتردى في هوة الضلالة، ولا يلقى سمعه إلى صوت الحق ودعوته. وتارة يكون سالكا طريق الباطل، إذا بعقله وبصيرته وما إليهما من العوامل الداخلية والخارجية ترغبه عنه ويشتد نور الهداية أمام عينيه، نفس ذلك النور الذي كان خفيفا من قبل، ويفتح عينيه دفعة واحدة فيميل إلى طريق الحق، وتارة يبقى متذبذبا يبن طريق الحق والباطل يميل إلى هذا مرة وإلى ذلك أخرى، ولا يكون من حيث قوة قضائه وعزيمته حتى ينقطع إما إلى هذا أو إلى ذاك، فمن الناس من يفارقون الدنيا على ما كانوا عليه في هذا العالم من التذبذب، ومنهم من يموتون على الضلالة، ومنهم من يدركون إشارة الهداية الإلهية بعد بحث وتمحيص ونضال طويل. وأحسنهم حظا أولئك الذين فطرتهم سليمة، وقلوبهم صحيحة، ونظرهم سديد، فيستعينون بما آتاهم ربهم من العقل والأعين والآذان، وأودع فطرتهم من القوى على الوجه الصحيح، ويستخرجون النتائج الصحيحة من مشاهداتهم وتجاربهم، ويعتبرون بما يرون من الآيات الإلهية، فلا تغرهم زينة الباطل ولا يخلب لبهم دجل الكذب، وهم لا يكادون يرون طرق الباطل المعوجة إلا ويعلمون أنها لا تصلح لسلوكهم، ثم إن هؤلاء عند ما يتوجهون إلى الحق ويتقدمون في سبيل طلبه، يرحب بهم الحق ويستقبلهم نور الهداية، وهم عندما يرون الحق حقا والباطل باطلا لا تنجح قوة من قوى الدنيا في الانحراف بهم عن طريق الحق إلى طريق الباطل>>[7] .


 [1]  مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة/ ابن قيم الجوزية ت 751هـ ـ دار الكتب العلمية – بيروت: 1/9

[2]  سورة الرعد

[3]  سورة الأنعام

[4]  سورة الإسراء

[5]  سورة النحل

[6]  فلسفة الاهتداء/ أبو الأعلى المودودي : مجلة دعوة الحق ـ العدد العاشر، السنة الأولى: رمضان 1377ه ـ أبريل 1958م : ص 15 ـ 16 بتصرف

[7]  فلسفة الاهتداء: ص 17

سجل تفاعلك مع المقال
Love
Wow
Sad
Angry
تم تسجيل تفاعلكم مع "فلسفة الاهتداء" قبل بضع ثوان
Show Comments (0)

التعليقات

مقالات ذات صلة

الفقه

التراث الإسلامي بين التنقيح والتحريف

إن الأمة الإسلامية اليوم لا...

تحرير الحسن شهبار يوم
المجتمع

في غياب المساءلات المعرفية – فوضى الجموع وأزمة اللاوعي

إنه من السهل أن تقنع من تعطلت قواه التفكيرية، وآلياته العقلية؛ بأن يشك في العواقب، بل بأن ينفيها وذلك عن طريق تمييع النتائج، وتمويه الأحداث، أو عن طريق تضخيم فكرة المساس بالشرع..

تحرير ذ. وصال تقة يوم