العربية .. لغة من؟

لقد صارت اللغة العربية بعد انتشار الإسلام في كل الأعراق والألوان شعار وحدة بين هذه الأمم، وسهلت التواصل بين المسلمين، وصارت حية في كل بلد حيي أهله بالإسلام ..


إبراهيم بقلال
العربية .. لغة من؟

ما دخل رَحْبةَ الإسلام قومٌ ولا أمةٌ إلا غيّر الإسلام من أحوالهم بعضا وأقرهم على بعض، ولم يأمر الإسلام قوما قط أن ينسلخوا عن كل ما اعتادوه وتعارفوه. هذه عادة الإسلام مع كل الأمم حتى العرب أنفسهم، غيّرَ الإسلامُ من أوضاعهم إلى ما يتناسب مع الفطرة وهو القدر المشترك بين كل الأمم؛ وهو ما يعني صلاحية الإسلام لكل الأمم. هذا، ويعني أيضا أن الإسلام دين العالمين لا العرب وحدهم، وأن العرب لم يعاملهم الإسلام بغير ما عامل به غيرهم. ولقد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، فبعث الله خاتم الأنبياء إلى كل الأمم. وكان كل متبع له هو من أمته بل من إخوانه، وليس القرب منه صلى الله عليه وسلم بدم ولا لسان ولا عرق، وإنما الأقرب منه صلى الله عليه وسلم والأولى به هو الأقرب اتباعا في الدين والخلق. فهو صلى الله عليه وسلم رسول للعالمين كما أن دينه دين العالمين.

وبعده، فإن العرب حين جاؤوا بالإسلام إلى بلاد الأمازيغ لم يأتوا ليحملوا الناس على اتباع أحوال أمة العرب، وإنما جاؤوهم بأوضاع الإسلام، وأما خصائص العرب مما ليس من شرائع الإسلام فلم يفرضه المسلمون لا على الأمازيغ ولا الترك ولا الفرس ولا القبط ولا الهنود؛ بل بقيت كل أمة على عوائدها الخاصة غير المخالفة للشرع. فرغم دخول الإسلام إلى البلدان المفتوحة احتفظ الأفراد والأقوام بوعي لأصولهم المغايرة للأصل العربي، وتمسكوا بإظهارها لعلمهم أن الإسلام لم يفاضل بين أهله إلا بالتقوى ( ألا لا فضل لعربي على عجمي …)، ولأنهم يعلمون أن الإسلام لا ينهاهم عن ذلك بل يحرم أن ينتسب المرء لغير نسبه. روي أن المهدي الخليفة العباسي الثالث سأل الشاعر بشار بن برد: “فيمن تعتد يا بشار؟ فقال بشار: أما اللسان والرأي ( لعله الزي ) فعربيان، وأما الأصل فعجمي”.

فإن قيل لقد فرضوا لغتهم العربية، أو عربوا البلاد، أو استعربوا الأمازيغ .. فالجواب: أنه لما جاءت الرسالة بلسان عربي مبين – اصطفاء إلهيا و الله أعلم حيث يجعل رسالته – لم تعد العربية من خصوصيات العرب لأنها صارت لغة دين ورسالة، تسير سير دينها، وتبقى ببقائه فوجب أن يتعلمها كل مسلم قادر لأنه مأمور بتلاوة القرآن وتدبره، ففرضها ونشرها أمر شرعي ديني بل أقبل عليها الأمازيغ، وانشرحوا لها مختارين، وكانت لهفتهم لها بقدر لهفتهم إلى فهم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فلم تكن إكراها ولا فرضا، بل اختيارا ممن يرغب في تحصين دينه والقوة فيه. وقد بلغوا فيها مدارك ومعارج تفوقوا بها أحيانا على العرب أنفسهم وشواهد هذا مشهورة.

ولم يكن ذلك الاحتفاء عن ضعف أو مجاملة لسلطة عربية أو خلافة مشرقية، بل بقي الاحتفاء والاعتناء حتى من الدول الأمازيغية. فالمرينيون والموحدون والمرابطون والمغراويون أمازيغ أقحاح، ما زادوا التمكين لدولهم إلا بإظهار الاعتزاز بالإسلام وخدمة العربية وتقديمها وتعليمها، لأنهم كانوا يعلمون أن رفض العربية رفض للدين وأن اللسان العربي هو لسان كل مسلم، مهما كانت أصوله وجذوره غير عربية. فالعربية عربية المغاربة والمسلمين جميعا ماداموا مسلمين. وهذا القرآن الذي يؤمنون به، لا يسمى قرآنا إلا في العربية لا غيرها من اللغات، فكيف يفصلون بينه وبين وعائه ولسانه؟ ولقد تمازجت العربية بالإسلام تمازجا لا يحاول فكه إلا متعجل لم يمعن أو متأكل لم يؤمن. ومن أخبار هذا التمازج أن الخليفة العباسي الثاني أبا جعفر المنصور سأل رباح بن أبي عمارة وكان مولى للخليفة الأموي هشام بن عبد الملك: “أعربي أم مولى؟ فقال: إن كانت العربية لسانا فقد نطقنا به، وإن كانت دينا فقد دخلنا فيه”.

ثم إن كل الدول وكل الملوك ببلاد الأمازيغ المسلمة عربا أم أمازيغ، لم ينازعوا الأمازيغ في استعمال لغتهم، ولم يلوموهم على ذلك، ولم يحاولوا إقصاء الأمازيغية من الاستعمال والتواصل المجتمعي اليومي، وإنما عملوا على نشر العربية وتقديمها بغير إقصاء لغيرها، لأنها الجامعة الواصفة للجماعة المسلمة، فإن اللغة شعار الأمم، وهذه أمة مسلمة لابد من إظهار شعارها الذي هو العربية، وإن لم يكن القوم عربا فإن العربية دين وقد دخلوا فيه.

لقد صارت اللغة العربية بعد انتشار الإسلام في كل الأعراق والألوان شعار وحدة بين هذه الأمم، وسهلت التواصل بين المسلمين، وصارت حية في كل بلد حيي أهله بالإسلام. فصارت لحمة بينهم كلحمة العقيدة والإيمان، لهذا فإننا – نحن الأمازيغ المسلمين – نحارب أي سعي لإبعاد المسلمين عن لغة دينهم، لأنه ليس لهذا غرض ولا وراءه قصد إلا تفريق وحدة المسلمين. نحاربه كما نحارب التنادي بالقومية العربية، ونعتبرها شعارا ساقطا جاهليا غير شرعي، رغم اشتماله على حروف ( ع – ر – ب) لأن النتيجة واحدة، وهي تفتيت الأمة وإضعافها.

لقد كان تاريخ العربية وحرفها ورسمها واحدا مع كل اللغات واللهجات التي حلت العربية بأرضها، مع القبطية في مصر، والرومية في الشام، والفارسية في إيران، والأمازيغية في المغرب والموريسكية بالأندلس. وحسُن تلقي هذه اللغات للعربية، فمذ حل الإسلام في هذه البلدان بدَّل أهلها ألف باءهم واقترضوا الحرف القرآني فكتبوا لغتهم الأصلية بألف باء القرآن. وهذا تعايش وتقارض غير مُفني عاشت فيه العربية سلما للغات القومية. وقد بلغت اللغات الآسيوية المكتوبة بالحرف العربي وحدها ثلاثين لغة، وهذا من أعظم الترحيب الطوعي بالعربية. وكذلك كان مع الأمازيغية، إلا أنا لا نقول إنهم بدلوا، لأنهم لا يعرف لهم ألف باء سابق؛ فقد ظلت الأمازيغية لغة شفوية طيلة تاريخها الطويل. والمستفرقون يذكرون أن ثمانين بالمائة من لغات إفريقية لا تزال شفوية إلى الآن. ولم يقع اختيار الحرف القرآني لكتابة اللغة الأمازيغية بسبب شكله الهندسي، بل لأن الحرف رمز لأمة القرآن. لهذا لمّا أريد لتركيا أن تنفصل ثقافيا عن الحضارة الإسلامية، استبدل الأجراء بحرفها القرآني حرفا لاتينيا، فهُدم جسر التواصل بينها وبين عالمها الطبيعي. وهذا مطلب كل من يدعو إلى نبذ العربية في بلاد المغرب الأمازيغي العربي، ويحاربها تحت راية المحافظة على الهوية الأصلية للمغاربة، مع أن الهوية لم تكن قط إشكالا عند المغاربة، فإن سوادهم بحمد الله لا يتصورون المغرب إلا وطنا مسلما، مهما كانت رغبتهم في عدالة اجتماعية وكرامة عيش. فالمغرب متبوأ المغاربة لما يعمره من الإيمان والإسلام ومعنى هذا أن الوطن ليس هو الأرض وحدها، ولكنه الأرض وما فوقها وما يعيش فيها من عقيدة وإيمان وشرائع. هذا ما يشكل صورة المغرب: مزيج من الأرض والدين. فالتفريق بينهما لن يكون – كما لم يكن قط – لمصلحة المغاربة، وفي علم الجريمة :”البحث في المستفيد من الجريمة يوصل إلى المجرم “. ولسنا نراه اليوم إلا مستعمر الأمس، إلا أن له على ذلك أعوانا من أبناء الوطن، الذين يشربون ماءه، ويؤدون التحية لعلم عدوه في الغابر والعابر.

سجل تفاعلك مع المقال
Love
Wow
Sad
Angry
تم تسجيل تفاعلكم مع "العربية .. لغة من؟" قبل بضع ثوان
Show Comments (4)

التعليقات

  • محبّكم عمر بلال

    حقاّ مقال رائع ومميز، تعجز الحروف أن تكتب ما يحمل قلبي من تقدير واحترام .. وأن تصف ما اختلج بملء فؤادي من ثناء وإعجاب .. فما أجمل أن يكون الإنسان شمعة تُنير دروب الحائرين. فإن في كل لمسة من جودكم وأكفكم للمكرمات أسطر .. كنتَ كسحابة معطاءة سقت الأرض فاخضرّت .. كنتَ ولا زلت كالنخلة الشامخة تعطي بلا حدود .. فجزاك الباري شيخنا أفضل ما جزى العاملين المخلصين .. وفقك الحق سبحانه لكل خير.

    • Article Author
    • رد
  • رشيد نايت القاضي

    جزاكم الله كل خير شيخنا الفاضل. اسال الله ان يتبت خطاكم على الحق. حقا مقال تأصيلي لما خاض فيه بعض التافهين ممن اعطي لهم وزن جماهري لا غير، فلا علم لهم ولا رجحان نظر. فاللغة العربية لم تعد من خصوصيات العرب لأنها صارت لغة دين الاسلام.

    • Article Author
    • رد
  • عمار

    سلمت وسلم قلمك

    • Article Author
    • رد
  • بنت ادم

    مقال جد راءع من انسان مسلم، غير اني اشير ليس عنصرية.. ولكن حقيقة، ان المغرب وفدت عليه عدة حضارات مستعمرة.. غير انها اُبيدت ولم يبق لها اثرا. واول حضارة معمرة هي الحضارة الفنيقية والفنيقيون هم من اصل عربي.. كانت قد خرجت القبيلتان العربيتان الكبيرات صنهاجة وكتامة مع القاءد اليمني افريقش الى شمال افريقيا… وبهذا كانت حضارة الفنيقيين من بناء وزراعة الخ.. كما ان الخط الامازيغي ما هو الا الخط الثمودي العربي.. وحسب النسابة المسلمين فالامازيغ هم من مازيغ بن كنعان… حتى نصل الى نوح عليه السلام… ولكن بما ان شمال افريقيا كان قد مرت به عدة حضارات… فقد امتزجت ساكنته… اذن فكيف نقول ان هناك عرق امازيغي صاف… هذا لا يمكن ان يتقبله عقل عاقل… كما اضيف ان الامازيغ يتنكرون للاصل العربي، اذن هل هم هومينيديس، كابسنيين، جينوتول، جرمان، وندال، رومان، بزنطيين، اسبان، فرنسيين، يهود… الخ… من يكونون اذن… يقولون انهم امازيغ وكانت لهم حضارة جد قديمة، حسنا لماذا لم يدونوا هذه الحضارة، لماذا اعتمدوا في القرن الواحد والعشرين على تدوين هاته الحضارة من كتب اجنبية رومانية وغيرها… يعني اعتمدوا على ماتركه غيرهم… اين كانوا… اين كانت الامازيغية انذاك… لماذا لم يقيموا مدارس وجامعات.. الخ، لماذا لم يكن لهم كتب وعلم…. سيقولون العرب هم سبب ما هم فيه وما وصلوا اليه… والعرب دمروا حضارتهم… الخ… انهم كطفل تاءه يسب كل من يمر به، طفل بلا تاريخ لا يعلم شيءا سوى انه امازيغي… وهذا الامازيغي تبناه اب عربي مسلم.. الى ان كبر، فعض يد ابيه وشهر عليه السيف يريد طعنه… فوالله لن يطعن الا نفسه… ولن يكون سوى طفل عاق، عصى ربه وخرج عن دينه وخسر دنياه واخرته… اما العربي والاسلام والقران فلهم رب يحميهم… وامة محمد (ص) خير امة… وحضارة العرب ام الحضارات… والجزيرة العربية هي منطلق كل الاجناس… وادم ابو البشرية جمعاء… ومن يريد ان يكون ابن قرد فله ذلك… وهنيءا له بالقردية اصلا… وهنيءا لامة العرب بمحمد وادم ابا…

    • Article Author
    • رد