حول ثقافة الاختلاف وتدبيره (1)
كيف يمكن التأسيس لثقافة تقبل بالاختلاف وتتعايش معه دون أن تولد صدامات على أرض الواقع؟ وكيف السبيل إلى تدبير الاختلاف والتقليل منه بعدما تأكد للجميع أن القضاء على الاختلاف من المستحيل الذي لا مَرَام له ولا قدرة عليه؟
اختيار المواضيع
كيف يمكن التأسيس لثقافة تقبل بالاختلاف وتتعايش معه دون أن تولد صدامات على أرض الواقع؟ وكيف السبيل إلى تدبير الاختلاف والتقليل منه بعدما تأكد للجميع أن القضاء على الاختلاف من المستحيل الذي لا مَرَام له ولا قدرة عليه؟
إن الإسلام لا يرى في المرأة أنها نصف المجتمع فحسب، بل يرى فيها أكثر من ذلك حين مكنها - بما أناطه بها من مهمة تنشئة الأجيال - من صنع أفراد المجتمع الذي يُحكم بنجاحه إذا نجحوا وبفشله إذا فشلوا ..
التشدد في الدين لا يأتي بخير، ولا يمكن أن يخرج لنا جيلا من الفتيات المسلمات يحملن الإسلام علمًا وتطبيقًا بتوسط واعتدال، لا إفراط فيه ولا تفريط ..
شاع بين المستشرقين وحتى بين بعض من كتب من المسلمين في تاريخ تدوين القرآن اعتماد المسلمين على أدوات بدائية في كتابة القرآن مثل عسب النخل والأقتاب وأكتاف الإبل والأحجار ونحو ذلك .. مما أوجد تصورا ضبابيا عن طريقة كتابة القرآن في العهد النبوي، حتى ظن بعض الباحثين أن نقل القرآن مكتوبا كان يحتاج إلى قافلة من الجمال!!
أكثر مُنكري السنّة لا يعلمون شيئا عن صفة جمعها ولا عن المعايير الدقيقة التي وضعها النقاد من أهل الحديث لكي يميزوا صحيحها من ضعيفها، ولا يفطنون لإمكانية استعمال عدة طرق علمية منطقية يُتوصل من خلالها إلى الوثوق - بل في بعض الأحيان: الإيقان - بصحة الأخبار ونسبتها إلى قائليها..
القول بأنَّ الإلحاد صار ظاهرة أو أشبه بالظاهرة محليّاً وعالميّاً، لا يعني أن نجنح نحو التهويل والتضخيم، سواء للطرح الإلحادي أو لأعداد المرتدين والساقطين في أوحاله. كما لا يعني أن نغض الطرف عنه ونهوّن من شأنه ونتغافل عن دؤوبه للتغلغل بين مختلف شرائح المجتمع، خصوصاً شريحة الصغار والشباب والأميين.
أليس من العته والاعتباطية أن تكون مقاطعة الزواج؛ وسيلة للحد من ارتفاع تكاليفه، وأن يكون الحث على "تعنيس" النساء، الذي هو في حد ذاته "تعنيس" للرجال؛ مأتى للحد من المغالاة في المهور، وأن تكون الرغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ مطية للانتقام من النساء؟
وتزيدني الأيام المتتالية، وما أشاهده فيها من عجائب الفهم، وغرائب النظر والاستدلال، يقينا بأن كثيرا من الأزمات كان بالإمكان تفاديها، لو أن جاهلا تعلّم، أو – على الأقل – لم يتعالم، فتأنى قبل أن يتكلم !
إن الاختلاف طبيعة بشرية، وسنة كونية، لم يغب ولم يختف يوما ما مِن عَلى وجه الأرض منذ خلق الله آدم وإلى أن تقوم الساعة. ولما كان الاختلاف حاصلا، ووجوده مطردا في العنصر البشري على جميع المستويات، فإن الله تعالى -وهو خالق الإنسان وأدرى به وبأحواله وبطبائعه- وضع له قوانين وتدابير بها يستطيع أن يُدبّر ويوجه؛ ليعيش الإنسان ما أمكن في سلم وأمن وأمان.
فكيف يمكن التأسيس لثقافة تقبل بالاختلاف وتتعايش معه دون أن تولد صدامات على أرض الواقع؟ وكيف السبيل إلى تدبير الاختلاف والتقليل منه بعدما تأكد للجميع أن القضاء على الاختلاف من المستحيل الذي لا مَرَام له ولا قدرة عليه؟
سوف أعرض -إن شاء الله- في هذه المقالات بالتتابع لمفاهيم تمس ثقافة الاختلاف، قصد الكشف عن قيمة هذه الثقافة التي نغفلها ونفقدها في حياتنا، وقصد تفعيل مقاصدها في الواقع.
مفهوم تدبير الاختلاف:
مصطلح “التدبير” قديم جدا بلفظه هذا، وهو موجود بمعجم الخليل بن أحمد الفراهيدي “العين”، وهو أقدم معجم وصلنا. قال الخليل: “التدبير: نظر في عواقب الأمور… وفلان يتدبر عواجز الأمور قد ولى صدورها”. وأرجع مادة (د.ب.ر) إلى آخر الشيء. قال: “وهو [1] أن يدبر الإنسان أمره، وذلك أنه ينظر إلى ما يصير آخر أمره وعاقبته” [2].
ويكثر استعمال “التدبير” في الطب ونحوه [3].
وقد ورد لفظ “التدبير” في القرآن الكريم في عدة مواضع، واللافت للانتباه أنه ورد مخصوصا ومقصورا على الجانب الإلهي، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾، وقد وردت هذه الجملة أربع مرات في القرآن الكريم. والملاحظ أيضا أن “التدبير” هنا أمر عقدي تكويني تصريفي.
فالتدبير في المعجم العربي وفي القرآن الكريم إذن لا يخرج عن النظر في عواقب الأمور وحسن تصريفها. و”تدبير الاختلاف” يعني حسن تصريف وتسيير وتوجيه ما وقع فيه الاختلاف بين الناس، حتى لا يفضي ذلك إلى النزاع.
فكيف ندبر الخلاف الحاصل بيننا وكيف نوجهه؟
ينبغي الإشارة إلى أن هناك مفاهيم محورية داخل الشبكة المفهومية للخلاف، وهناك مفاهيم ثانوية، ويصعب حصر كل المفاهيم؛ لأن مظاهر الاختلاف متنوعة، ووسائل تدبيرها متعددة.
وبالنظر إلى تدبير الاختلاف في القرآن الكريم خاصة، نجده ينقسم إلى مجالين:
– تدبير الاختلاف الواقع بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل الأخرى.
– تدبير الاختلاف الواقع بين المسلمين أنفسهم.
وكل قسم من هذين القسمين يتفرع إلى حقول دلالية.
المجال الأول: تدبير الاختلاف الواقع بين المسلمين وبين غيرهم
أولا: في حالة الموادعة والمسالمة
نميز داخل هذا الحقل بين عدة مستويات من تدبير الاختلاف:
المستوى الأول نجد فيه: الحوار – الحجاج – الجدال بالحسنى …
المستوى الثاني نجد فيه: الصفح – العفو – الإعراض – الدفع بالتي هي أحسن …
المستوى الثالث نجد فيه: السلام – السلم – العهد – الميثاق …
وهذه وقفة مختصرة مع أهم هذه المعاني القرآنية التي لا محيد عنها في تدبير الاختلاف وتوجيهه:
* الحوار:
ورد بكثرة في القرآن الكريم، خاصة بالمفهوم، أما باللفظ فلم يرد إلا خمس مرات. ومادة القول هي الأكثر دلالة على معنى الحوار في القرآن.
والقرآن الكريم حاور أهل الكتاب أكثر من غيرهم، وغالبا في الحوار ما يُنبه أتباع اليهودية والنصرانية إلى الشريعة الأصلية الحنيفية قبل وقوع الانحراف، ويعيب على أهل الكتاب تحريفهم لشريعة إبراهيم الحنيفي، ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67]. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 64]. فهي دعوة لحوار هادئ قائم على كلمة السواء التي تجمع المختلفين بدل أن تفرقهم.
* السلم:
الملاحظ أن السلم هو الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم، وجميع المستويات الأخرى كالمواثيق والتحالفات والحروب، خادمة لهذا الأصل. والدليل على ذلك وجود آيات مدنية تُؤرخ لعهد القوة والعزة تحث على السلم رغم قوة المسلمين وظهورهم على غيرهم، فمن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة المدنية: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السَّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208]. وكذا في سورة النساء المدنية: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ [النساء: 94].
ويتأكد هذا أكثر مع آية سورة الأنفال المدنية، حيث نجد الدعوة إلى الجنوح للسلم حتى والمسلمون في أتون الحرب، مما يعني أن الحرب الهدف منها تحقيق السلم، فإذا ما طرح مشروع للسلام وجب التخلي عن كل حرب والدخول فيه. قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال: 61].
أما في العهد المكي، فالآيات الآمرة بالسلم كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]، ومنها: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص: 55]، ومنها قوله سبحانه: ﴿وَقِيله يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: 88، 89].
* الميثاق والعهد:
الميثاق وجه من وجوه الحفاظ على السلم الذي هو أصل كل تعامل مع المخالفين، والميثاق في ثقافة الإسلام مقدم على كل اعتبار، والالتزام به فرض واجب. فقد قال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ [الأنفال: 72]، نزلت هذه الآية في المؤمنين المستضعفين ممن بقي بمكة ولم يهاجر، والميثاق والعهد في هذه الآية مقدم على النصرة.
ثانيا: في حالة الحرب
الحرب العادلة مظهر من مظاهر تدبير الاختلاف، فهي في مجال تدبير الاختلاف كالكيّ في مجال الطب، و”آخر الدواء الكي”. والملاحظ أن الأمر بقتال المخالفين جاء في القرآن دفاعا عن بيضة الإسلام وحماية لقضية المسلمين العادلة، فأول آية شرعت الحرب جاءت معللة بسبب الظلم الواقع على المسلمين والضعفاء، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75]،وهكذا توالت الآيات.
والقتال والحرب والجهاد، مفاهيم متداخلة بينها عموم وخصوص، فالقتال أعم من الحرب، والجهاد أعم منهما. فالحرب هي المعركة، وهي مظهر من مظاهر القتال، والقتال والمقاتلة قد تكون بالسلاح وقد تكون بوسائل أخرى كالحصار والضغط … والجهاد يشملهما معا ويزيد عليهما بمعاني أخرى أسمى، فيكون بالمال وبالنفس والوقت والتعليم وبغير ذلك…
فهذه نبذة مختصرة عن مظاهر تدبير الخلاف والاختلاف مع غير المسلمين كما يقدمها القرآن الكريم، نستفيد منها تربية جليلة على السلم وعلى قبول الاختلاف وتدبيره وتوجيهه.
تتلوها نبذة أخرى عن مظاهر تدبير الاختلاف بين المسلمين أنفسهم إن شاء الله تعالى.
(يتبع)
[1]أي: التدبير.
[2]“معجم العين” للخليل، مادة دبر، نشرة دار الهلال (8/ 33).
[3] ينظر “كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم” للتهانوي، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى: 1996م (1/402).
التعليقات