بلعام “في الخليج العربي”
وزاد الطين بلةً غياب وتغييب المشايخ الصادقين الذين كتب الله لهم القبول والرفعة في نفوس الناس، وذلك إما بسجنهم أو محاربتهم أو إسكاتهم، فخلتْ الساحة الإعلامية تقريباً لمشايخ السلطة الذين يتوجس منهم العامة قبل الخاصة..
اختيار المواضيع
وزاد الطين بلةً غياب وتغييب المشايخ الصادقين الذين كتب الله لهم القبول والرفعة في نفوس الناس، وذلك إما بسجنهم أو محاربتهم أو إسكاتهم، فخلتْ الساحة الإعلامية تقريباً لمشايخ السلطة الذين يتوجس منهم العامة قبل الخاصة..
فهؤلاء هم أسلاف من يدعو اليوم إلى رفع التجريم عن كل العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، من شذوذ وزنى، محصن وغير محصن، فعُلم أن هذه الدعوة ليست جديدة، فقد سبقهم المزدكية إلى الفسوق والإباحية، وإلى الفجور والفوضوية، وإلى الفساد والشهوانية..
إن العاقل ليحار عندما يمعن النظر في حال أمتنا، و إن باغي الإصلاح ليقف مشدوها من أين يبدأ و كيف يتصرف، أالأخلاق، أم المفاهيم و الثوابت، أم العدو المتربص بل المدمر المخرب...
شيء واحد يسمعه الإنسان ألف مرة، وفي كل مرة يأبى أن يقبله، ولكن يأتي عليه حين ينفتح فيه قلبه المغلق دفعة واحدة لذلك الشيء نفسه، فبينما كان هو لا يجتاز أذنيه من قبل، إذا به الآن ينفذ إلى أعماق قلبه.
القياس السليم عنده هو أن يُرَكِّبَ الفقيه مغزى اتجاهات سيرة الشريعة الأولى، المتمثلة في النصوص الخالدة، ويحاولَ في ضوء هذه الكليات توجيه الحياة الحاضرة، مع تجريدها عن وقائع الأعيان..
هذه بذرة مشروع في تدبير الاختلاف، بذرة مشروع حري بالدراسة والنظر والتأمل والتدبر؛ لأن القرآن الكريم وضع أسس التعامل مع المخالفين كيفما كانوا: سواء من داخل البيت المسلم أو من خارجه..
تعتبر الربوبية فلسفة عدمية عقيمة، فهي لا تعطي إجابات شافية عن الأسئلة الوجودية الكبرى الملحة لكل إنسان على وجه الأرض، وقد رد القرآن الكريم على القائلين بمثل هذه المقالة (عبثية الخلق)..
الانطلاق من القرآن بتجرد عن كل ما يشوش نظرتنا وجعله منهجاً لتفسير وتوجيه معتقداتنا وسلوكاتنا هو أفضل منهج لفهم الدين فهما صحيحا، وأفضل وسيلة لتعزيز وحدة اﻷمة ونبذ فرقتها.
إنّ قضيّة الإيمان أو الإلحاد، والالتزام بمقتضياتهما في الفكر والسلوك، تستحق من العاقل ألا يتعامل معها بسذاجة لا مبالية وسطحيّة عابرة..
نحن اليوم أمام وثنية جديدة اسمها العلم التجريبي، أنبياؤها هم علماء البيولوجيا والطب والفلك والفيزياء الذين يتبنَّون المنهج العلموي..
الحمد لله وكفى …
شيخ يلتقط صورة ” سيلفي ” مع راقصة…
وآخر يبارك للنصارى على عيد ” الكريسمس “
وثالث يشرعن لجريمة قتل بشعة اتفق الإنس والجن على إنكارها وشناعتها.
ورابع يرقص…
وخامس سخّر أدبه وبيانه وقلمه في مدح الظلمة وأعوانهم …
وهكذا في قائمة طويلة لا تنتهي، نستفيق صباح كل يوم على صدمة جديدة.
ما كان يدعو إليه هذا الشيخ أو ذاك العالم أربعين سنة نقضه في لقاء واحد أو جرة قلم.
ما يهمني الآن في هذه الورقة ليس تحليل هذا التغير الكبير على شريحة كبيرة من المشايخ، وما الأسباب والتغيرات التي طرأت عليهم، بل ولا حتى التعرض للضغوط التي تعرضوا لها، كل هذا لا يعنينا الآن.
إنما الذي يعنيني هو كيف استقبل الناس هذه المواقف، وكيف تفاعلوا معها؟ وحتى تكون ورقتي أضيق نطاقاً فإني قصرتها على موقف الشباب الخليجي من هذه التحولات.
وقبل أن أبين ذلك، أحب أتعرض إلى بعض النقاط المهمة لتكون بساطاً ومهاداً لما سيأتي:
النقطة الأولى: رغم حرص كثير من المشايخ على بيان أنهم لا يمثلون الإسلام، وأن ثمت فرقاً بين الإسلام والمسلمين – وعلى رأسهم المشايخ- وأن كلاً لا يمثل إلا نفسه، وأنّ أهل الأرض لو ارتدوا ما ضر ذلك ربنا شيئاً ولا ضر الإسلام شيئاً = إلا أن الواقع يقول إن العامة يصعب عليهم التفريق بين الأمرين.
وهذا الأمر من الخطورة بمكان، فالعامي – بطبيعة الحال- لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة- فبمجرد أن تعرض له كلمات مثل (الدين والإسلام والشريعة) فإنّ أول من يخطر بباله هو إمام الحي، وخطيب الجمعة.
نموذج “بلعام” الذي ضربه الله لنا مثلاً لعالم السوء في سورة الأعراف كي نحذره = يغيب عن أذهان العامة وبعض الخاصة أيضاً أمام سيل من القدوات العظام المذكورة أخبارهم في القرآن والسنة من الأنبياء والمرسلين والصالحين والصديقين.
ومع أن الله عز وجل قد ذكر لنا ما هو أعظم من ذلك وأشد، حيث ذكر لنا ذنوب بعض الأنبياء، ليقول لنا: إنّ هؤلاء الأنبياء على جلالة قدرهم قد وقع من بعضهم الهفوة والزلة إلا أن الله يوفقهم للتوبة، وتلك الذنوب هي من جنس الصغائر التي لا تخل بمقام التبليغ.
والعصمة المطلقة للأنبياء التي قررتها بعض الفرق ونحوهم تسربت إلى جمهور المسلمين والسواد الأعظم منه.
وأما المبالغة في تقديس المشايخ وإضفاء حالة شبيهة بالعصمة عليهم فيبدو أنها تسربت إلى جمهور المسلمين من خلال بعض المتصوفة.
لو استحضرنا جيداً أن كل ابن آدم خطاء، وأن أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كان ( ثبتْ قلبي على دينك) = لما أشكل علينا شيء.
لقد ارتد بعض الصحابة بعد إسلامهم، ووقع من بعضهم الزنى وشرب الخمر، وحملتْ صحابية سفاحاً، ولم ينزع ذلك منهم اسم (الصحبة) بل ظلوا صحابةً كراماً وخير من خلق الله بعد الأنبياء، لأن الله وفق معظمهم للتوبة.
النقطة الثانية: ليس في الكلام أعلاه تسويغ أو تسهيل للإقدام على المعاصي، بل القصد منه بيان أن كل ابن آدم معرض للزلل، وأن “كل المشايخ لو زلوا وانتكسوا فإنه مفهوم ضمن هذا السياق الذي بيناه.
فإن قلتَ: وكيف يزل من يحفظ القرآن ودرس الشريعة، وأقام الليل، وصام النهار؟
قلتُ: ذلك لتعلم أن الهداية والثبات هي محض توفيق من الله، يمن بها على من يشاء من عباده، وأن كل تلك الأمور التي ذكرتها هي أسباب لا غير.
وبعد هذا التمهيد أدخل إلى صلب الموضوع وهو موقف الشباب تحديداً من هذه التحولات، والذي يظهر أنهم على أقسام:
القسم الأول: مدرك أن الزمن زمن فتنة، ويفهم هذه التحولات في سياقها الصحيح، ولم تحرك فيه هذه التحولات شيئاً، وما زادته إلا إيماناً وتسليماً، وتراهم سائلين الله أن يثبت قلوبهم، ولا يفتنهم كما فتن غيرهم.
ولن أتعرض إلى هذه الفئة.
القسم الثاني: فئة من الشباب كانوا يضمرون في قلوبهم شيئاً تجاه هؤلاء المشايخ، فلما ظهرت هذه التحولات وجدوها فرصة للنيل منهم.
ويدخل في هؤلاء من تشرب الأفكار العلمانية ونحوها وكان يصيح في المحافل أنّ هؤلاء المشايخ الذين ترونهم على الشاشات ما هم إلا منافقون ودجالون في ثوب دعاة، وما كان الناس يلتفتون إليه لإحسانهم الظن بالمشايخ، ولأنهم لم يُظهروا إلا خيراً.
فلما برزت التحولات والتغيرات على الساحة فرح واستبشر وقال: هذا ما كنت أقوله لكم!
والحقيقة أن هذه الفئة لن تجد فرصة ذهبية للنيل من المشايخ والدعاة وإسقاطهم من قلوب الناس مثل هذا الزمان، ولا سيما بعد الأزمة الخليجية 2017م.
ولو أن هؤلاء سلطوا سهامهم ونقدهم على أولئك المشايخ الذين باعوا دينهم، وأصبحوا ألعوبة في يد السلطة والإعلام، وغدوا يتاجرون بدينهم وعلمهم = لهان الأمر.
لكن الخطورة تكمن أنهم لا يقتصرون على ذلك بل إنهم يُعملون التعميم على المشايخ زماناً ومكاناً.
أما زماناً= فإنهم يقعون في مشايخ الزمن الحاضر بالثلب ثم يلحقون بهم من مضى ومن سيأتي.
أما مكاناً: فتراهم يقولون إن هؤلاء المشايخ هكذا في كل بلد، وكل قُطر.
وهكذا يقعون في مغالطة التعميم من كل وجهٍ كما ترى.
وساعد هؤلاء على قوة موقفهم تسليط الإعلام الضوء على النماذج السيئة من المشايخ في كثير من البلدان العربية، مع إقصاء المشايخ الذين يتمسكون بمبادئهم ولا يتزلفون ولا يتكلمون بما يُرضي الجمهور.
وزاد الطين بلةً غياب وتغييب المشايخ الصادقين الذين كتب الله لهم القبول والرفعة في نفوس الناس، وذلك إما بسجنهم أو محاربتهم أو إسكاتهم، فخلتْ الساحة الإعلامية تقريباً لمشايخ السلطة الذين يتوجس منهم العامة قبل الخاصة.
القسم الثالث:
شباب صالحون تدينوا تفاعلاً مع الصحوة الإسلامية، وتبنوا اختيارات الصحوة الفقهية في كثير من القضايا، خصوصاً فيما يتعلق بإعفاء اللحية وإسبال الثوب، وكانت هاتان القضيتان بالنسبة لهم شعارين للتدين.
وهذه الفئة فيهم طلاب علم وهم قلة، وفيهم عوام وهم الأكثر.
الذي حصل أن هذه الفئة أصيبت بصدمات بعد مواقف بعض المشايخ السلبية والزج بهم في قضايا سياسية ألبسوها لباس الدين، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ترتب على ذلك وقوع الشك والريب في قلوب بعضهم.
شك في المشيخة وشك في المنهج وشك في التدين، ولا ندري ربما شك في الدين نفسه، وإنْ كنت لم أقف على من يجهر بهذا الشك الأخير لكني لا أستبعده.
ولُوحظ أن كثيراً منهم خفف لحيته، وأسبل ثوبه عمداً، وما عاد يتقيد بكثير من اختيارات السلفية المعاصرة في الفقه.
وليست المشكلة الآن هي قضية اللحية أو الثوب ونحوهما، فتلك مسائل فقهية أمرها هين.
لكن الإشكال هو في التحولات الفكرية لهؤلاء الشباب.
التنكر للماضي بل والسخرية منه، والندم على الساعات التي قضاها في تعلم كتاب أو زيارة شيخ أو محضن تربوي التي لا تخرج كلها من أن تكون طاعات ما بين واجب ومستحب ومباح.
والأخطر من ذلك أن يتحول إلى رجل لا هم له إلا بطنه وفرجه ولذته، بعد أن كان يحمل رسالة نبيلة، وهماً للأمة، وهدفاً وغاية عظيمة يعيش لأجلها ويموت.
وبعد أن كان يُعظم علم الشريعة وحملتها، ويقدس اللغة العربية وبلاغتها = أصبح يرطن بالأعجمية بمناسبة وغير مناسبة مع التعظيم والانبهار لكل التخصصات إلا الشريعة.
ما الذي حصل؟
الذي حصل أن هؤلاء لم يستطيعوا تحمل الصدمة من سقوط بعض ” مشايخهم ” تباعاً واحداً تلو الآخر، من كان يبكي في المحاضرات من خشية الله وكان مَثَله الأعلى في التدين والصلاح والعلم = ظهر له أنه ليس كذلك.
ونظراً إلى أنّ هؤلاء لم يأخذوا حظهم الوافر من العلم الشرعي، ولم يطلعوا على التاريخ الذي ذكر لنا نماذج أسوء مما نراه الآن = فإنّ التحول الفكري سيكون سريعاً عندهم.
وكأنّ هؤلاء ربطوا تدينهم واستمرارهم على الصلاح وحمل هم الرسالة بوجود المشايخ واستمرارهم، فإن ثبتوا ثبتوا ، وإلا سقطوا.
وبعد هذا التوصيف للأقسام الثلاثة أختم برسائل:
الأولى: إن هذا الدين ليس فيه ثغرات، وقد كتب الله له البقاء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلن يضره كثرة الساقطين ولا تخاذل المتخاذلين.
الثانية: ينبغي أن نعيد النظر في كثير من الاختيارات الفقهية التي تحولت إلى عقيدة ومنهج، ويجب وضع كل مسألة في نصابها الصحيح دون غلو ولا شطط ولا تفريط.
الثالثة: التأمل في مسألة المبالغة في تعظيم المشايخ، ورفعهم فوق منزلتهم، والتعويل المطلق عليهم، وكأن الإسلام نزل للمشايخ فقط، وهم المسؤولون عنه، ويغيب عن الذهن أنّ كل مسلم مسؤول عن نصرة دينه، وكل مسلم سيحاسب وحده دون ترجمان ولا مشايخ.
الرابعة: إلى أولئك الثابتين على تحصيل العلم، ونشر الدعوة، والتحرق لهذا الدين رغم سقوط بعض “القدوات ” أقول لهم: زادكم الله ثباتاً ونفع الله بكم، سواءً رفعتم ثيابكم أم كنتم من المسبلين!
والحمد لله …
كتبه:
سالم القحطاني
الدوحة – قطر
13 جمادى الأولى 1441هــــ
8 يناير 2020م
التعليقات