الوثنية العصرية: عبادة العلم التجريبي (1)
نحن اليوم أمام وثنية جديدة اسمها العلم التجريبي، أنبياؤها هم علماء البيولوجيا والطب والفلك والفيزياء الذين يتبنَّون المنهج العلموي..
اختيار المواضيع
نحن اليوم أمام وثنية جديدة اسمها العلم التجريبي، أنبياؤها هم علماء البيولوجيا والطب والفلك والفيزياء الذين يتبنَّون المنهج العلموي..
إن الكلام عن مصاحف الصحابة في مقابل مصحف عثمان مجرد مغالطة اعتمدها المستشرقون للتشكيك في صحة القرآن..
لا ينقص من قدْرك أو قيمة فكرتك أو مشروعك العلمي أو الدعوي إن تولى غيرك مهمة التنزيل والتوقيع ..
الحياة تتكامل بجميع أجزائها لا بمفرداتها، كقطع فسيفساء تعضد بعضها بعضا لتشكل لوحة ذات منظر متماسك ..
أجل، ذلك التعبير اليسير الذي يظهر على مُحَيَّاك، والذي لا يتطلب منك أي مجهود، ولا يأخذ منك أكثر من ثانيتين، ولا تنفق عليه أي شيء، هو في ديننا الحنيف صدقة !
تجلّت فوارق كبيرة في النتاج الأدبي فيما قبل زمن الحداثة وما بعدها، وظهر التأثر بالغربيّ المستورد في محاولة للتماهي مع أدواته، بوصفه المثال الأقوى والأوضح..
إننا نومن أن التراث الإسلامي يحتاج دائما إلى تجديد وتنقيح، وقد أخبرنا بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم حينما قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" ولكن ما المقصود بالتجديد؟ ومن يتولى مهمة تجديد التراث وتنقيحه؟
كفانا تسولا على عتبات معبد "حقوق الإنسان"، واستجداء لأن يُدخلنا الغربُ في جنس هذا "الإنسان" الذي تُحفظ حقوقه .. كفانا انطراحا أمام هيكل "القيم الكونية الإنسانية"، ورجاءً لأن تشملنا بردائها الفضفاض .. كفانا تسبيحا بحمد "ثقافة التنوير"، التي لم نر منها – في تاريخنا الحديث - إلا ظلام العبودية والذل ..
إن عملية الهدم هي أسهل من عملية البناء، وإن عملية التبعية التي نعيشها اليوم إنما تقودنا إلى هدم ما أقمنا بناءه وقواعده عبر أجيال وتاريخ طويل، وإن هدم بناء الدين يبدأ بهدم الثقافة واللغة ..
لقد صارت اللغة العربية بعد انتشار الإسلام في كل الأعراق والألوان شعار وحدة بين هذه الأمم، وسهلت التواصل بين المسلمين، وصارت حية في كل بلد حيي أهله بالإسلام ..
قد يعترض علينا أحد فيقول: منذ متى صار العلم التجريبي إلهاً حتى يعبد؟ ألديه رُسلٌ حتى؟ وهل رأيت الناس يسجدون له أو يُرتِّلون إنجيله المُنَزَّل من السماء؟ إن العلم التجريبي ليس ديناً كأديانكم المليئة بالخرافات والقصص الأسطورية، إن العلم وسيلة للمعرفة والتقدم، “وكل ما يمكن التوصل إليه من معرفة، يجب أن نتوصل إليه بطرق علمية، وما لا يمكن للعلم أن يكتشفه، لا يمكن للإنسان أن يعرفه”،(1) فنحن نصدق العلم-We believe in Science.
فنقول لهذا اصبر ولا تستعجل، فأما كون العلم التجريبي ديناً نزل من السَّماء فلاَ، وأما كونه صنماً جديداً حجَّت البشرية في عقودها الأخيرة إلى كنيسته فبلى، بل أصبح العلم هُبلَ الزمن الحاضر بلا منازع، له أناجيله ونواميسه التي يقدِّسها أتباعه، وله كهنته وسدنته الذين ينشرونه بين الناس ويحملون على عواتقهم أمانة تبليغه والدعوة إليه..
دعونا نرجع إلى الوراء قليلاً، إلى بداية القصة قبل ولادة آينشتاين وإيزاك نيوتن، عندما كان الراهب هو الذي يفسِّر للبشر جميع أسئلتهم الوجودية والكونية، فكانت الفيضانات غضب الآلهة على البشرية، والزلازل والأعاصير كانت انتقاما من الرّبِّ لأن الناس لا يقرِّبون الذبائح إلى الآلهة.
هكذا كانت الأسئلة تفسر في جميع الديانات الوضعية منها والسماوية، حتى في ديننا الإسلامي الذي نزعم نحن أنه يحارب الخرافات، يقول أصحابه أن الأقمار والنجوم لا تسقط لأن الإله يمسكها، ويمسك السماوات والارض أن تزولاَ..
فكانت البشرية غارقةً في خرافاتها حتى النخاع، كل ما لا تعرف أسبابه العلمية تنسبه إلى كائن ميتافيزيقي يسمى الإله، تسد به فراغاتها المعرفية-God of the gaps.
وهكذا ظلت الحال حتى جادت أرحام النساء الأوروبيات بعدد من الرجال بعد القرون الوسطى، تفتَّقت عن عقولهم نظريات علمية ناسفة لجهالات الكنيسة والرهبان، فأخبرنا كوبرنيك وكيبلر وغاليليو أن الأفلاك تدور حول الشمس التي هي مركز الكون وليست الأرض كما جاء في الإنجيل، ثم جاء إسحاق نيوتن ليفسر لنا لماذا لا يسقط القمر والشمس فوق رؤوسنا، وعرفنا أن الأرض ليست مسطحة لها أربع زوايا كما جاء في العهد القديم، ثم أخبرتنا الكشوفات العلمية عن أسباب الزلازل والبراكين، وأن الطاعون والكوليرا ليسا انتقاما من الرب، بل هذه الأوبئة سببها الجراثيم والعدوى والبكتيريا التي أصبحنا نرصدها بواسطة المجاهر والمكبِّرات…
لقد أصبحنا نعرف كل شيء تقريباً، واستطعنا أن نتجاوز العصر اللاهوتي والميتافيزيقي إلى عصر التجريبية الاستقرائية مع فرانسيس بيكون(2)، هذا الرجل الذي أخرجنا من ظلمات القساوسة إلى أنوار فلاسفة المادة وعلماء الطبيعة، فهو الذي سطَّر قواعد العلم التجريبي، هذه القواعد التي هشَّمت رؤوس أتباع الغيب والجن والشياطين والشهب الحارقة.
ثم تطورت القصة شيئا فشيئا حتى ظهرت الديانة الوضعية، أو التجريبية الوضعانية-Logical positivism كما يسميها البعض، مع أبيها الروحي أوغست كونت، جارفة معها ما تبقى من المقولات الميتافيزيقية واللاهوتية الدينية التي لا تخضع للتحليل المنطقي والتحقق التجريبي..
عموما! القصة طويلة، وقد عرفت أطوار هذه الديانة العِلماوية الجديدة تغيُّرا وتبدُّلاً، مرت سنواتٌ قوي فيها ساعدها واشتد عضدها واستألهت على البشرية واستضعفت فيها الدين وأتباعه، ثم تَلَتها أعوام نضبت فيها وتقلصت وذلّت وهانت، وشُنَّ عليها هجوم شرِسٌ من طرف العلم نفسه ومن طرف أتباعه، مُلئَ فيها نسيجها المهلهل بالثقوب والعيوب، ولكن العلموية لم تمت، بل تغيَّرت وتلوَّنت كما تلوَّنُ الحرباء تماما، وعادت إلينا في زيِّها العصراني الجديد، رغم أنه كفَنٌ يدل على موتها العتيق.
العلموية العصرانية
العلموية كما قرأتَ أعلاه ديانةٌ تبني صرحها على العلم التجريبي، وفلسفتُها المعرفية تقوم على ثلاثة أصول:
الأول: أن العلم التجريبي هو سبيل المعرفة الوحيد، ولا يمكننا معرفة أي شيء خارج نطاق المنهج التجريبي.
الثاني: أن العلم التجريبي يغنينا عن جميع التفسيرات الماورائية والغيبية، وهو بديلٌ عن التفسيرات الدينية، يقول ماسيمو بيغلوشي: “الافتراض الرئيس للعلم هو أن العالم قابل للتفسير كليا بمصطلحات الفيزياء دون اللجوء إلى كيانات تشبه الإله”.(3)
الثالث: أن أي شيء لا نستطيع دراسته ورصده بواسطة العلم التجريبي، هو أمر خرافي لا وجود له، بما في ذلك الآلهة والجن والشياطين والغول والإبريق الذي يسبح في الفضاء..
وقد انتعش هذا المذهب الإمبريقي في عصرنا الحالي، وصار يحمل لواءه مبشرون جدد يرأسهم ريتشارد دوكينز، ستيفن هاوكينغ، سام هاريس، لورانس كراوس، فيكتور ستينجر ديفيد سلون وغيرهم، بعد أن كان يدعو إليه في الماضي جوليان هيكسلي، جيمس فيتر، بير دوهيم، برتراند راسل وأضرابهم.
روافع العلموية العصرانية
يعتمد مبشرو العلموية الجدد على النظريات العلمية الحديثة في بناء عقيدتهم وإقامة حيطانها، فعندما يتحدث المؤمنون عن حاجة الخالق في ساحة الطبيعة وروعة الخلق وإبداعه وبهائه، يستدعي العلمويون باستور ولامارتين وتشارلز داروين لكي يشرحوا لنا كيف تكون كل ذلك بيولوجيا بعيدا عن الآلهة، وعندما يتحدث المؤمنون عن الأفلاك وتماسكها وتناغمها يستنجد العلمويون بلابلاس وإسحاق نيوتن، وقد بقيت ورقةٌ أخيرةٌ في أيدي المؤمنين بحسب دعاة العلموية، هي استدلالهم بالإله قليلا في ميدان الفيزياء، لكن ستيفن هاويكنغ قام بسحب هذه الورقة منهم أيضاً وحطم حلمهم الأخير، يقول ريتشارد دوكينز: “لقد طرد داروين الإله من البيولوجيا، ولكنه بقي قليلاً في الفيزياء، ويُسدِّد هاوكينغ الضربة القاضية الآن”.(4)
علَّق ريتشارد منتشيا بهذا الكلام إثر النظرية الأم-M التي اقترحها هاوكينغ كتفسير لكل شيء، فنحن بهذه النظريات العلمية نستطيع الاستغناء تماماً عن الآلهة والأديان، يكفينا المنهج العلمي الطبيعي للإجابة على جميع أسئلتنا والحصول على كل الأجوبة التي يطرحها الإنسان منذ قُطع حبله السُّرِّي…
فنحن اليوم أمام وثنية جديدة اسمها العلم التجريبي، أنبياؤها هم علماء البيولوجيا والطب والفلك والفيزياء الذين يتبنَّون المنهج العلموي، يقول دوكينز: ” علماء الطبيعة وحدهم هم المتخصصون في اكتشاف كل ما هو حقيقة بخصوص العالم والكون”.(5) وعبادُها هم العوام الماثلون أمام هذا الصنم، لا يفترون عن التسبيح بحمده ولا يبغون عنه حِوَلاً.
فهل العلم التجريبي يجيب على جميع الأسئلة فعلا؟
هل يغنينا فعلا عن الدين وغيره من سبل المعرفة؟
هل فعلاً يتعارض التفسير العلمي مع التفسير الديني؟
هل العلموية اليوم مذهب قائم بذاته؟
هل العلم التجريبي كامل أم قاصر؟
هذا ما سنجيب عنه في المقالات المستقبلية من هذه السلسلة إن شاء الله، ولكن قبل ذلك يجب أن نوضح أمراً أساسيا:
أن هناك فرقاً بين العلم كوسيلة نافعة في أيدي البشرية، لها حسناتها وسيئاتها، وآفاقها وحدودها، وبين العلموية التي هي مذهب فلسفي يستوصي على العلم ويحمِّله ما لا يحتمل.
إن مشكلتنا ليست مع العلم، بل العلم نعمة يجب شكرها وحمد الله عليها، وإنما مشكلتنا مع أدعياء علموة هذه النعمة الذين يسعون في تحويلها إلى نقمة.
____________________________
المصادر:
• (1): هذه العبارة العلموية قالها برتراند راسل:
“Whatever Knowledge is attainable, must be attained by Scientific mthods; and what science cannot discover, mankind cannot know”.
Bertrand Russel: Relegion and Science. (New York, Oxford University press 1997). P.243
• (2): انظر: تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند راسل (57) / وانظر أطلس الفلسفة، لبيتر كونزمان، بيتر بوركارد، وفرانز فيدمان (93)
• (3): sir arthur Eddington, The End of the World: From the Standpoint of Mathematical Physics, Nature 127.1931 p.450
• (4): Evolution News: Did Physics Kill God? (Anika Smith, 3 Nov 2010)
• (5): A Devil’s Chaplain: Selected Writing, Richard Dawkins (London: Pheonix. 2004) p.242
التعليقات