تعالت مؤخرا في بلادنا أصوات، شاذة في مضمونها وفاذة
في أصحابها، تنادي برفع التجريم عن العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، ويقصدون
بالضبط إلغاء ثلاثة فصول من القانون الجنائي، وهي الفصول 489، 490، و491، المتعلقة
على التوالي بالشذوذ الجنسي والزنى والخيانة الزوجية.
والباعث على هذا الطلب – بحسب زعمهم – أن هذا التجريم
يتناقض مع مبدأ الحرية الفردية.
لن أتحدث عن مبدإ الحرية الفردية من حيث هو، لأنه من
المعلوم بالضرورة أن حرية المسلم تنتهي عند حدود الله تعالى، وإنما سأتناول
الموضوع من جهة تاريخية، لأن كثيرا من المغرر بهم في هذه القضية يعتقدون أن هذا
يدخل في تطور البشرية وتقدمها، وأن تقييد الناس أمر أكل عليه الدهر وشرب وينبغي
تجاوزه.
يقول الله تبارك وتعالى: “قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِين” (آل عمران:137).
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسير هذه الآية:
“وفي الآية دلالة على أهمية علم التاريخ لأن فيه فائدة السير في الأرض، وهي
معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها. قال ابن عرفة: السير في الأرض
حسي ومعنوي، والمعنوي هو النظر في كتب التاريخ بحيث يحصل للناظر العلم بأحوال
الأمم، وما يقرب من العلم، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لعجز
الإنسان وقصوره.”
ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “استدل على
ما لم يكن بما كان فإن الأمور أشباه”، أي تأمل في أحوال من سبقك وخذ منها
الدروس والعبر لفهم حاضرك وتوقع مستقبلك، فإن الأحداث تتشابه.
ومن قلب نظره في تاريخ الأمم والحضارات السابقة، وركز
على موضوع الحرية المطلقة والإباحية المفتوحة فلا بد أن تقع عينه على شخصية مزدك
(أو مزدق).
ومزدك هذا هو مزدك بن موبذان أو مابذان، ولد في أواسط
القرن الخامس ميلادي (حوالي 467م) بنيابور في بلاد فارس.
تعلم بعض التعاليم الدينية السائدة في بلده آنذاك، ثم
انطلق يدعو في البداية إلى ترك التباغض والتشاحن، ثم ما لبث أن ركز دعوته على
عنصرين، وهما المال والمرأة، فقال إن أصل الصراعات هما هذان الأمران، (وقد أصاب في
هذا التشخيص).
ثم ذهب إلى أنه وجب عدم الانفراد بهما، فالمال لكل
الناس، فينبغي اقتسامه بالتساوي، ولا زواج بين الذكر والأنثى، فلا يختص رجل بامرأة
ولا امرأة برجل، وإنما كلاهما حر يعاشر من يشاء (تأمل: اشتراكية وإباحية بالمفاهيم
المعاصرة).
فوجدت دعوته أولا موقعا في نفوس الشباب والمترفين
والشواذ.
قال الشهرستاني في كتابه الملل والنحل: “أحل مزدك
النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة فيه، كاشتراكهم في الماء والنار
والكلأ”.
ثم انتشرت دعوته بسبب تلبيسه على الناس وإظهاره لنفسه
بأنه داعية للسلام والحب الحر والعدالة والمساواة، (تأمل شعاراته)، حتى بلغت الملك
قباذ بن فيروز، وهو والد أنو شروان، الذي اضطر إلى تبنيها تحت ضغط
“المزدكيين”، فصارت أفكار مزدك المذهب الرسمي لمملكة الفرس.
فعمت الإباحية والفوضى معظم البلاد، وطغت الشهوانية
والفجور على أكثر الناس.
قال ابن جرير الطبري في تاريخه: “قال مزدك
وأصحابه إن الله إنما جعل الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتساوي، ولكن الناس
تظالموا فيها. ثم زعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء ويردون من المكثرين على
المقلين، وأنه من كان عنده فضل مِن الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو بأولى من
غيره. فافترص السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم، فابتلي الناس
بهم وقوي أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه
وأمواله لا يستطيع الامتناع منهم، وحملوا قباذ على ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا
إلا قليلاً حتى صاروا لا يعرف الرجل ولده ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئا
مما يتسع به.”
وقال ابن خلدون في مقدمته “كان مزدك زنديقا
إباحيا”
كما عُرِف المزدكيون بتجنب أكل اللحم (كحال بعض الشاذين النباتيين اليوم)!
قال ابن نباتة المصري في كتابه “سرح العيون في
شرح رسالة ابن زيدون”: “وبايع قباذ رجلا زنديقا يسمى مزدك، أحدث مقالات
في إباحة الفروج والأموال، وكان لا يأكل اللحم”.
وتمعن حال المجتمع الفارسي على لسان الملك أنوشروان
بعد انتشار المذهب المزدكي، في خطبته حين تولى الملك، وقد نقلها المؤيد أبو الفداء
في كتابه “المختصر في أخبار البشر”: “المزدكية أباحوا نساء الناس
وأموالهم، وجعلوهم مشتركين في ذلك، بحيث لا يختص أحد بامرأة ولا بمال، حتى اختلط
أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهل سبيل العاهرات إلى قضاء نهمتهن، واتصلت السفلة
إلى النساء الكرائم اللواتي ما كان أولئك يتجاسرون على أن يملؤوا أعينهم منهن إذا
رأوهن في الطريق”.
وعلى يد الملك أنوشروان كانت نهاية مزدك وأتباعه
ومذهبه.
فهؤلاء هم أسلاف من يدعو اليوم إلى رفع التجريم عن كل
العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، من شذوذ وزنى، محصن وغير محصن، فعُلم أن هذه
الدعوة ليست جديدة، فقد سبقهم المزدكية إلى الفسوق والإباحية، وإلى الفجور
والفوضوية، وإلى الفساد والشهوانية، وسلكوا قبلهم سبل التعمية والتلبيس بالدعوة
إلى كلمات براقة أخاذة تسحر الناس وتجلبهم، كالحرية والحب والمساواة، ولكن انظروا
إلى ما آلت إليه أحوال المجتمع الفارسي في عهدهم.
والفطن من لم ينخدع بالشعارات واللافتات، ونظر إلى
حقائق الأمور وجواهرها لا إلى أغلفتها ومظاهرها، واعتبر بغيره ولم يكن عبرة لغيره.
نسأل
الله السلامة والعافية.
سجل تفاعلك مع المقال
تم تسجيل تفاعلكم مع "المزدكيون الجدد!"
قبل بضع ثوان
التعليقات