عرف مصطلح العلم ومفهومُه احتكارا تعسفيا لا يقبله عقلٌ، وذلك بحصره في نِتاج
العلوم التجريبية فقط، وإن كانت هذه العلوم التجريبية تقوم على ما تُنكره أو
تُقِلُّ مِن شأنه، حيث أنها ترتكز على المنطق والرياضيات، ومَوثوقية العقلِ
والحواس، ووجود العالم الخارجي، والقدرة على العلم بحقيقة هذا العالَم، وقدرة
اللغة على وصف العالم… ولا يمكن للعالِم التجريبي أن يُنشئ تجربةً واحدة دون تلك
المقدمات. [1]
وقد فرض المجتمع الدولي بفضل سلطته البروبَّاغَاندية هذا المصطلحَ حتى أضحى حكرا
على صنف واحد من العلوم، هي العلوم التجريبية، وأمست سائر العلوم الأخرى هدرا لا
تُصَدِّقها إلا دول العالم الثالث، مِن التي حُكِمَ عليها -بالداروينية
الاجتماعية- بأن تظل مرؤوسة لا رئيسة، مَسوسَةً لا سائِسة، ومَقُودَةً إلى حيث شاء
لها السَّاسَةُ الكبار، الذين جعلوا مِن المختبر رَحِم المعرفة الأوحد، وجعلوا من
التجريب عمليةَ الإخصابِ المُتفرِّدة، التي لا تُنجب إلا حقّاً، وما لَم يكن مِن
نسلِها من العلوم، فهو ابن سِفَاحٍ يُرمى ولا يُقَرَّب، وذنبُه مأخوذ به لا مغتفَر..!
إن كل منظومة فكرية لابد لها من روافد للمعرفة، تحدد مصادرها ومناهج تحصيلها،
فيلزمها بعد ذلك الالتزام بها والاطراد في اعتقاد نتائجها، غير أن الناظر في الفكر
الغربي لا محالةَ يرى ويلمس اختلالا وتناقضا منهجيا في كثير من قضايا الفكر
والمعرفة لديه، وذلك لتخلَّفِ مبدإ الاطِّراد في بعض مناهج الفكر، واختلالات عقلية
في مسالك القياس البُرهاني، ما يُنتج انحرافات عقَدية خطيرة، تترتب عنها نتائجُ
عوجاءُ، وتُبنى عليها قراراتٌ شنعاءُ..!
وقد أنتج هذا التخبط المعرفي لبناتٍ ورموزا
كبرى في صَرحِ الفكر الغربي، لعل مِن أبرزهم، الفيلسوف الرياضي المثير للزوابع
والمشاكل برتراند راسل، الذي كان متدَيِّنا فصار بعد تفكُّرٍ ملحدا شرسا، ينكر
وجود الله ويهاجم الأديان. غير أن هذه الحملة الفكرية التي قادها لم تَخْلُ مِن
تناقضات منهجية، وقفزات حُكمِيَّة، تتسلل بين طيّات كلماته، وتظهَرُ بجلاء بين
حروف مخطوطاته، وما ذلك إلا لتغليب الظن، (وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِن یَتَّبِعُونَ
إِلَّا ٱلظَّنَّۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـࣰٔا)[سورة النجم: 28]..!
لم يدَّخِر راسل جهدا في الهجوم على الإله والدين بطريقة تتراوح بين السلاسة الأدبية، وبين السخرية الشعبَوية، وذلك بارز في كثير من كتاباته، ففي نقده للدين يقول بــ”أن الناس الذين يشعرون أنهم يجب أن تكون لهم عقيدة أو دين لكي يواجهوا الحياة، إنما يُظهِرون نوعا من الجُبن، الذي يُعَدُّ في أي مجال آخر مَدعاةً للازدراء”[2].!! لقد ترك راسل الدين بسبب تعارضه مع العلم، إذ كان مولَعا بالرياضيات والمنطق، الأمر الذي جعله يرى التناقض الصريح في تعاليم المسيحية المُحرَّفة، وهذا أمر مقبول، لكن، لماذا قام بتعميم الحكم الذي استنتجه من تجربته مع الإله والدين المسيحيين على سائر الأديان والآلهة؟ هنا نستحضر قوله الذي ذكر فيه خطورة التعميم، ليتجلى التناقض بين القول والمعتقد: “فالتجربة أظهرت خطرَ التعميم والبدء بالمبادئ العامة لاستنباط الحالات الفردية منها، وذلك لسببين: أولهما أن هذه المبادئ العامة قد لا تكون صحيحة، وثانيهما لأن الاستدلال العقلي القائم عليها قد يكون خاطئا..” [3]، وبناءً على ذلك سنُحاكمه إلى قوله قائلين:
هل المنهج الرياضي يقبل مثل هذا التعميم الذي قام به، إذ انطلقَ من حالة فردية
-الدين المسيحي- ليحكم على سائر الأديان بتعميم لا استقراء وراءه، والتعميم لا
يكون إلا باستقراء تام أو بالاعتماد على الاطراد بين الأسباب والمسببات، أو بين
النتائج والمقدمات، فهل كان لراسل حظ من هذا المنهج -العلمي- أم أنه عمَّمَ..
وكفى..؟!
هل قام راسل بأية دراسة علمية، -بما أنه كثيرا ما يُمجِّد المنهج التجريبي-
أخضع فيها أفرادا متدينين كثيرين لتجارب نفسية حتى يحكم عليهم بأن تدينهم ما هو
إلا جُبن وخوف؟! أم أن هناك عاطفة تسللت إلى النفس فاجتالَتها مما كانت تعتقد من
مناهج منطقية إلى القفز الحكمي؟!
لقد وقع راسل في السبب الثاني مِن قوادِح الاستدلال، الذي ذَكَره آنفاً، وهو
خطأ الاستدلال بالمقدمة، التي إن سلَّمنا له بصحتها، ففي تعميمها على كل الأديان
خطأ بيِّن، للاختلافات الجوهرية الكثيرة جدا بين المسيحية وسائر الأديان، وبينها
وبين الإسلام بالخصوص، فالقياس إذاً مع وجود الفارق باطل. والذي دفعني للقول
بتخطيئه أنه قال ما قال في مَعرض التقرير لمذهبه وليس في مَعرض المحاججة والجدل،
كما أنه في تقريرٍ قضية كهذه، التي يتعرض فيها لقضية تعتبر مِن أمَّاتِ القضايا في
تاريخ البشرية مطلقا، قد أوردها تارة بدون تأصيل، وتارة أخرى بتأصيل ضعيف..!
ثم إن المقدمة التي بنى عليها حُكمَه مقدمةٌ مُضمَرةٌ لا جليَّة، وهي باطلة[4]
عند الجدليين، يستلزِم بُطلانُها بطلانَ ما بُنِيَت عليه، كقولك: كلُّ مَن يطوف
ليلا فهو سارق، وهي كقول راسل “إن الدين يقوم، برأيي، بصورة أساسية وأولية
على الخوف، إنه جزئيا الخوف من المجهول، وجزئيا، كما قلت مِن قبل، الرغبة في أن
تشعر بأن لديك أخاً أكبرَ سيقف إلى جانبك في كل ما تواجهه من مشاكل
ونزاعات”[5]، فإطلاق حكم كهذا، دون دراسة أو عمومِ بلوىً مع جلائها، يجعلها
مقدمة مُضمَرةَ المعنى جليةَ التهافت فلا تُسَلَّم له، خاصة في قضية وجودية كبرى،
كوجود الله..!!
إن الحكمَ بانتفاء الوجود الإلهي، وجَعْلَ التدين والبحث عن قوة عُليا نتيجةً
للخوف، ما هو إلا مغالطة الأصل المنطقية، التي يُبتدَأُ فيها بالحكم سلبا أو
إيجابا على منبع الفكرة، للحكم على الفكرة نفسها بالصواب أو الخطإ، دون التعرض
للفكرة ذاتها ومؤيِّداتها، إذ إن القول بأن الإيمان بإله باطل لأن أصله شعور
الإنسان بالضعف، لا يُبطل وجود إله، وإنما -في أقصاه- يفسر الحالة الإيمانية، ولا
يَلزَم مِن ذلك ألَّا يوجَد إله..![6]
والاستقراء كما هو معلوم “هو الحكم بضرورة التلازم بين الأسباب
والمسبِّبات، بحيث يَلزَم إذا وُجِد المسبِّب أن يكون السبب موجودا، وإذا وُجِد
السبب أن يتبعه المُسبِّب ضرورةً” [7] وهذا ما نجده مُنتفِياً لعدم ذكر راسل
في أيٍّ من كتاباته أسبابَ تدين الإنسان التي بنى عليها تعميمَه، اللهم بعض
التحليلات الاجتماعية التي بناها على تجربته واطلاعاته الشخصية، متلبِّسَةً
بلَبوسِ العاطفة، لينفي بها وجود الإله، ويحتقر كل دين. الدين الذي ما فَتِئَتِ
البشرية تدين به، وتعيش به وعليه..! مما يشهد له -من باب التعزيز لا التقرير- ما
جاء في معجم (لاروس) للقرن العشرين: “إن الغريزة الدينية مُشترَكة بين كلّ
الأجناس البشرية، حتى أشدها همجيَّة، وأقربها إلى الحياة الحيوانية … وإنَّ
الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة
للإنسانية”[8]
وفي نفي إفراد علاقةِ سببيةٍ بين الدين والخوف يقول (أوغست ساباتييه) :
“إن شعور الرهبة والخوف من القوى العلوية لا يكفي وحده لتفسير فكرةِ
الدِّينِيّة، ولا بد من شعورٍ آخر يُوازيه ويُلَطِّف مِن حِدَّتِه. ذلك أنَّ الخوف
إذا استأثر بالنفس سَحَقَ الإرادة ووَلَّدَ اليأس. ومَن وقع فريسةً للرّعب، إن لم
يتَصوّر إمكان الخلاص، لم يُفكِّر في البحث عن عَونٍ يُنقِذُه من الخطَر الذي وقع
فيه، فلا بدَّ لتحقيق الشعور الديني مِن مقاومة الخوف والرهبة بما يُعادلُهما من
الأمل والرجاء اللَّذَين يبعثان على الدعاء والتضرع. هذه حقيقة التدين.”[9]
وكختام لهذا المقال المختصر جدا، نقابل تقريرا لراسل نفسه، ونُبطِل ما قاله أعلاه بفِكره، يقول: “العلم لا يبدأ بالفروض العريضة بل بالحقائق الفردية التي تكتشفها الملاحظة أو التجربة، ويستخلص العلمُ قاعدةً عامةً من عدد من الحقائق الفردية، فإذا كانت القاعدة العامة سليمة فإن الحقائق الفردية موضوعَ البحث تكون مجرد أمثلة، والعلم لا يؤكد هذه القاعدة العامة بشكل مطلق، ولكنه يبدأ بقَبولها كافتراض صالح للعمل به، وفي حالة سلامة هذا الافتراض فإن بعض الظواهر غير الخاضعة للملاحظة حتى الآن سوف تحدث في ظروف معينة، فإذا رأى أنها تحدث فإن هذا يعتبر تأكيدا لصحة الافتراض، وإذا لم تحدث فلابد من نبذ هذا الافتراض واختراع افتراض جديد بدلا منه.”[10]
فالتعميم الوجودي يقتضيه الاطِّراد المشاهَد عبر العصور، والذي تُقِرُّه
الفِطَر والعقول، كقولنا أن كلَّ شيءٍ حادث لابد له مِن مُحدِث، فهذا معنىً ظاهرٌ
تُقِرُّه العقول وتَشهَد له التجربة، لكن ما وجه التلازم بين الدين والخوف، أو
الدين وأي اضطراب نفسي؟ لا شك أن هذا مما لا يرجع إلى المبادئ الأساسية للعقل، بل
يتوقف على التجربة، ولانتفاء التلازم العقلي بين السبب (الخوف) والمُسَبَّب
(التدين)، إضافة إلى عدم قيام راسل باستقراء تام، لا يصح التعميم مطلقا، فيكون كل
تعميم متوقفٌ على مقدمة كهذه باطلا، ولذلك فإن كلامَه الأخير ينقُضُ كلامَه
المتقدم، لحكمه بما ترَجَّح في نفسه لا بما قادَه إليه الدليل، وهذه مغالطة قال
عنها إدوارد فون هارتمان: “صحيح تماما أنه لا يوجد شيء لمجرد رغبتنا في
وجوده، ولكن ليس صحيحا أن الشيء لا يمكن أن يكون موجودا إذا رغبنا في وجوده، إن
كاملَ نقد فيورباخ للدين، وبُرهانَه للإلحاد، يعتمدان على هذه الحجة الوحيدة،
والتي هي مغالطة منطقية” [11].
والله أعلم.
__________________________
[1] براهين وجود الله، سامي عامري. ص:٩٥.
[2] انظر: أفضل ما كتبه برتراند رسل (٥٠)،
حوارات مع برتراند رسل (٣٠). نقلا عن كتاب ظاهرة نقد الدين، لسلطان العميري: ١/٢٢٤.
[3] الدين والعلم، لبرتراند راسل. ترجمة رمسيس
عوض، ص:٩.
[4] علم الجذل في علم الجدل، لنجم الدين
الطوفي. ص: ٨٢.
[5] لماذا لست مسيحيا، راسل، ترجمة: عبد
الكريم ناصيف. ص: ٣٤.
[6] براهين وجود الله، ص: ٢٠٨.
[7] المعرفة في الإسلام، مصادرها ومجالاتها،
عبد الله القرني. ص:٤٣٤
[8] Larousse du XXéme siècle, article: religion.
نقلا عن كتاب الدين، لمحمد عبد الله دراز. ص: ٩١
[9] اُنظر: براهين وجود الله. سامي عامري. ص:
٢١١.
[10] الدين والعلم. ص: ٩.
[11] براهين وجود الله ص:٢١٢.
سجل تفاعلك مع المقال
تم تسجيل تفاعلكم مع "القفز الحُكمي في الفكر الغربي..! برتراند راسل ..."
قبل بضع ثوان
التعليقات