نقض دعاوى الاستشراق الجديد (2): مصاحف الصحابة
إن الكلام عن مصاحف الصحابة في مقابل مصحف عثمان مجرد مغالطة اعتمدها المستشرقون للتشكيك في صحة القرآن..
اختيار المواضيع
اختيار المدون
أستاذ باحث
إن الكلام عن مصاحف الصحابة في مقابل مصحف عثمان مجرد مغالطة اعتمدها المستشرقون للتشكيك في صحة القرآن..
تحرير عبد الله الشتوي -
شاع بين المستشرقين وحتى بين بعض من كتب من المسلمين في تاريخ تدوين القرآن اعتماد المسلمين على أدوات بدائية في كتابة القرآن مثل عسب النخل والأقتاب وأكتاف الإبل والأحجار ونحو ذلك .. مما أوجد تصورا ضبابيا عن طريقة كتابة القرآن في العهد النبوي، حتى ظن بعض الباحثين أن نقل القرآن مكتوبا كان يحتاج إلى قافلة من الجمال!!
تحرير عبد الله الشتوي -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، وبعد :
بعد الكلام عن تدوين القرآن في العهد النبوي نأتي إلى مدخل من مداخل الاستشراق التي كثر فيها الكلام وهو : مصاحف الصحابة
وقبل بدء الكلام في ما ذكره صاحب كتاب ”المخطوطات القرآنية” أشير هنا إلى مسألة مهمة وهي أن الكلام عن مصاحف الصحابة يستلزم أمورا منها الاقرار بكتابة القرآن في العهد النبوي واعتماد الصحابة على الكتابة وعدم اكتفائهم بحفظه في الصدور، وهي مسألة لطالما حاول المستشرقون إنكارها أو التقليل من ضبط الصحابة للنص القرآني.
يقول صاحب كتاب المخطوطات القرآنية : (ورغم هذا الجمع الأول الذي أكمل في عهد عمر، إلا أن بعض النساخ والعارفين بالنصوص القرآنية لم يقفوا عاجزين أمام تدوين مصاحفهم الخاصة، فقد ظهرت مصاحف أخرى على الساحة كمصحف عبدالله بن مسعود ومصحف أبي بن كعب ومصحف علي بن ابي طالب ومصحف أبي موسى الأشعري وغيرها)[1].
إن الكلام عن مصاحف الصحابة في مقابل مصحف عثمان مجرد
مغالطة اعتمدها المستشرقون للتشكيك في صحة القرآن، لأن كلما بين أيدينا عن مصاحف
الصحابة لا يدل على خلاف بين مصاحف الصحابة في شيء من القرآن، وكل ما في الأمر
مواضع محصورة قليلة عن كلمات أدرجها الصحابة في مصاحفهم من قبيل التفسير ونحو ذلك
مما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم ….
ومن الصحابة الذين نسبت إليهم مصاحف خاصة حسب ما ذكره ابن ابي داوود : عمر بن
الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعبدالله بن مسعود وعبد الله بن عباس
وعبدالله بن الزبير و عبدالله بن عمرو و عائشة وأم سلمة رضي الله عنهم، ونسبت
مصاحف لغيرهم كذلك…
وأبدأ أولا ببيان ما في الكلام السابق من سوء تصور وقصر فهم لجمع أبي بكر رضي الله
عنه، فإن أبا بكر لما عزم على جمع القرآن بإشارة من عمر بعد مقتل كثير من القراء
في موقعة اليمامة لم يكن يهدف إلى حمل الناس على القراءة بمصحف واحد، بل كان الغرض
جمع الصحف المكتوبة في العهد النبوي وتتبع كل ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم لكتابة نسخة موحدة يرجع اليها الناس عند الحاجة، قال الزركشي : (وإنما طلب القرآن
متفرقا ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن ; ليشترك الجميع في علم ما جمع،
فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا
يشكوا في أنه جمع عن ملأ منهم)[2].
وقد شارك في هذا الجمع جماهير الصحابة ولا
يعلم –على الاطلاق- أن أحدا منهم اعترض على جمع أبي بكر.
ولما انتهى زيد بن ثابت من جمع القرآن بقي المصحف عند أبي بكر ثم عند عمر ثم انتقل
الى ابنته أم المؤمنين حفصة، ولا يوجد ما يدل على أن أبا بكر وعمر بعده ألزموا
الناس بترك مصاحفهم والقراءة بها، بل استمر كل يقرئ بما تعلمه من النبي صلى الله
عليه وسلم من غير خلاف، إلى أن توسعت رقعة الاسلام ودخل فيه كثير من الاعاجم فكثر
الخطأ، ومع تعدد الأحرف التي يقرئ بها الصحابة خشي حذيفة وعثمان أن يدخل في القرآن
ما ليس منه بدعوى تعدد القراءات، فجاء الجمع العثماني لإرسال مصاحف إلى كل مصر من
الامصار.
ومن هنا فلا وجه لمحاولة إظهار مصاحف الصحابة كأنها تزاحم مصحف أبي بكر وإظهار
الامر على انه تنازع على الشرعية ! فإن اتخاذ الصحابة مصاحف خاصة بهم أمر معتاد منذ
العهد النبوي !
وبعد ان ذكر ابن ابي داوود هذه المصاحف
نسب إليها بعض القراءات
بأسانيد جمع فيها بين الصحيح والضعيف على عادته في تتبع كل ما له علاقة بالمصاحف،
ولا يوجد في ما نسبه إليها آيات زائدة غير بضع كلمات لا تثبت قرآنيتها ولم يثبت أن
أحد من أصحاب هذه المصاحف أقرأ بها.
وكل هؤلاء الصحابة الذين نسبت لهم مصاحف لا يعرف عنهم اعتراض على جمع أبي بكر ، ففي
هذه اللائحة من الصحابة نجد عمر بن الخطاب وهو من أشار على أبي بكر بجمع القرآن
وشارك زيدا في الجمع الى جانب غيره من الصحابة، فكيف يمكن أن يقرأ بما يخالف ما
جمعه في مصحف أبي بكر ؟!
ونجد كذلك منهم علي بن أبي طالب وهو القائل في جمع أبي بكر : (إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ
أَجْرًا فِي الْمَصَاحِفِ أَبُو بَكْرٍ)[3]، وقد كان علي رضي الله في خلافته
مقرئا مهتما بتصحيح المصاحف فلا يعقل أن يسكت -وهو خليفة- عن ما يراه مخالفا لما
تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي
حكيمة العبدي قال :كنا نكتب المصاحف بالكوفة فيمر علينا عليّ يقوم فينظر فيعجبه خطّنا[4].
ومنهم أُبيّ بن كعب وقد كان فيمن شارك في كتابة مصحف أبي بكر فقد جاء في مسند أحمد
وغيره عن أبي
العالية عن أبي
بن كعب) أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي
بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي
بن كعب)[5]،
وقد جاء كذلك أن أنس بن مالك كان ممن يملي القرآن[6].
ومما يؤكد موافقة مصحف أبي لمصحف عثمان ما نقله الباقلاني عن ابي الحسن الاشعري
قال : (قد رأيتُ أنا مصحف أنسٍ بالبصرة عندَ بعض ولد أنس، فوجدتُه مساويا لمصحفِ
الجماعةِ لا يغادرُ منه شيئا، وكان يُروى عن ولدِ أنسِ عن أنسٍ أنّه خَط أنسٍ
وإملاءُ أُبيّ)[7].
ومنها أيضا مصحف عبدالله بن الزبير وهو أحد الكتبة الذين اختارهم عثمان بن عفان
لنسخ المصاحف في خلافته.
وقبل كل هذا فإن هؤلاء الصحابة قرأوا وأقرأوا القرآن وصححوا المصاحف لطلبتهم،
وأخذت عنهم جموع من المسلمين وعليهم تدور أكثر أسانيد القرآن، ولا يزال المسلمون
إلى اليوم يقرؤون القرآن مسندا إليهم، فقد كان لعبدالله بن مسعود مجلس بالمسجد
يصحح المصاحف للقراء[8]،
وممن عرض عليه المصحف قراءة وكتابة زر بن حبيش، قال : (كنا نعرض المصاحف على
عبدالله فسأله رجل من ثقيف: يا أبا عبدالرحمن أي الأعمال أفضل؟ …)[9]،
وروي مثله عن غيره من التابعين، وقد توافر أصحاب عبدالله بن مسعود في الكوفة
وانتهت إليهم القراءة ونقلوها إلينا ودونت حروفهم، فكيف يمكن بعد هذا القول أن
مصحف ابن مسعود مخالف لمصحف غيره اعتمادا على روايات ونقول لم تُنقل على سبيل
القراءة والاقراء.
قال الإمام المازري : وأما ابن مَسْعُودٍ
فَرُوِيَتْ عَنْهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ ، مِنْهَا مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ
عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ ، وَمَا ثَبَتَ مِنْهَا مُخَالِفًا لِمَا قُلْنَاهُ (أي
مخالفا لمصحف عثمان) : فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى
أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ فِي مُصْحَفِهِ بَعْضَ الْأَحْكَامِ وَالتَّفَاسِيرِ،
مِمَّا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ ، وَكَانَ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ
ذَلِكَ ، وَكَانَ يَرَاهُ كَصَحِيفَةٍ يُثْبِتُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَكَانَ
رَأْيُ عُثْمَانَ وَالْجَمَاعَةِ مَنْع ذَلِكَ، لِئَلَّا يَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ،
وَيَظُنَّ ذَلِكَ قُرْآنًا )[10].
[1] : كتاب المخطوطات القرآنية ص: 23
[2] : البرهان في علوم القرآن ص: 138
[3] : أخرجه ابن ابي داوود في كتاب المصاحف
[4] : ابن ابي شيبة في المصنف ، الجزء15 ص: 542
[5] : رواه الامام أحمد في مسند الأنصار رضي الله عنهم » حديث أبي العالية الرياحي عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه، ورواه ابن ابي داوود في المصاحف ص: 15
[6] : روى الطبري في تفسيره والداني عن ابي قلابة عن أنس بن مالك : كنت فيمن يملي عليهم.
[7] : الانتصار للقرآن – الباقلاني ص: 234
[8] : تعظيم قدر الصلاة – محمد بن نصر المروزي رقم الحديث : 935، ص: 898
[9] : أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) جزء 2/رقم:7637، 6/رقم:30397، و البيهقي في (الشعب) الجزء1/رقم:763، وأخرجه عبد الله بن أحمد في (السنة) 1/رقم:772
[10] : النووي – شرح صحيح مسلم 6/106
إنّ ثقافة ما بعد الحداثة تعمل بكلّ أجهزتها على إخضاع الناس للاعتقاد بعدم وُجود حقيقة مطلقة وموضوعيّة، وتقوم على إجبارهم على المساواة والتّسامُح المُفرِط مع الجميع، الذي لا يقِف...
إنّ قضيّة الإيمان أو الإلحاد، والالتزام بمقتضياتهما في الفكر والسلوك، تستحق من العاقل ألا يتعامل معها بسذاجة لا مبالية وسطحيّة عابرة..
التعليقات