دلائل عقلية على صحة السنة النبوية

أكثر مُنكري السنّة لا يعلمون شيئا عن صفة جمعها ولا عن المعايير الدقيقة التي وضعها النقاد من أهل الحديث لكي يميزوا صحيحها من ضعيفها، ولا يفطنون لإمكانية استعمال عدة طرق علمية منطقية يُتوصل من خلالها إلى الوثوق - بل في بعض الأحيان: الإيقان - بصحة الأخبار ونسبتها إلى قائليها..


فهد مولاطو
دلائل عقلية على صحة السنة النبوية

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد،
فبعد أن جرت محاورة بيني و بين أحد منكري السنة من معارفي، اكتشفت أنه لا يعلم شيئا عن صفة جمعها ولا عن المعايير الدقيقة التي وضعها النقاد من أهل الحديث لكي يميزوا صحيحها من ضعيفها، بل وجدت أنه لم يفطن لكون الأخبار يمكن استعمال عدة طرق علمية منطقية يتوصل من خلالها إلى الوثوق – بل في بعض الأحيان: الإيقان – بصحة نسبتها إلى قائليها، فأحببت تقييد بعض ما قلت له وضربت له من الأمثال، لعله تكون فيه إفادة.

فما من نص من نصوص السنة إلا له أسانيد وطرق، تعرف بسلسلة الرجال التي عبرها وصلنا ابتداء من قائله الأصلي. فلنغض الطرف عن اتصال السند أي كون كل من رجال السلسلة سمع الحديث من الشيخ الذي يرويه عنه مباشرة دون واسطة، كمثل قولنا مالك عن نافع عن ابن عمر، ولنفترض أن كل واحد من الرجال سمع من شيخه وأن لا انقطاع في السلسلة، أي أنه ليس هناك راوٍ سقط من السند فلم يذكر، مع أن اكتشاف هذا النوع من العلل له طرقه عند أصحاب الحديث.

إذا افترضنا أن الحديث جاء من سلسلة واحدة، فصحة الحديث تبقى رهينة بشرطين اثنين، إن استطعنا إثباتهما فقد برهنا علميا ومنطقيا على صحة نسبة الخبر إلى قائله، والشرطان هما: أولا نفي كذب أحد الرواة، والشرط الثاني عدم خطئه، إذ ما من حاك لخبر إلا صاحبه إما صادق أو كاذب، فإن كان كاذبا اطرح خبره، وإن كان صادقا، فإما أنه مع ذلك مخطئ في نقله أو مصيب، فإن كان مخطئا اطرح خبره وإن كان مصيبا فهو المطلوب.

فلنبدأ بالشرط الأول، أي نفي تعمد الكذب عن الرواة، وهذا ما اصطلح أهل الحديث على تسميته “عدالة الراوي”، ولهم طرق عدة لإثباتها، أهمها:

شهادة أهل العلم المعاصرين للراوي بعدالته، وهو ما يسمى التزكية. ولأهل العلم تشدد كبير في هذا الباب حيث تبنوا قاعدة أن لا يقبلوا حديث أي راو غير مزكى إذا انفرد، فتكون طريق الحديث المنقولة من جهته ضعيفة، ثم للتزكية عندهم مراتب حيث الراوي الذي زكاه من عاشره مدة طويلة وساكنه في بلده وخبره ليس كتزكية من دونه، ثم من زكاه جمع من العلماء ليس كمن زكاه عالم واحد، وهذه الفروق تظهر فائدتها عند التعارض أو لتحديد مرتبة الحديث من القوة وغيرها.

إن تزكية عالم من علماء الحديث لأحد الرواة تعتبر شهادة لأهلية الراوي أن يؤخذ عنه، أي أن لديه وازعا دينيا على ما يبدو من سيرته وسمته يمنعه من اقتراف كبيرة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن هذه الشهادة إن صدرت من أحد هؤلاء النقاد الورعين الذين لا تأخذهم في سبيل المنافحة عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لومة لائم، فتجد أحدهم لا يتردد في تضعيف أخيه أو أبيه إن كان يرى ذلك هو الحق، لهي خير دليل على أمانة الراوي المزكى. وهذا لو صدرت التزكية من أحدهم، فما بالك إن شهد لراو جمع من جهابذة أهل العلم، فالراوي إن خفي حاله على أحد النقاد المعاصرين له، فبعيد جدا خفاؤه على جلهم، وأبعد من هذا كله تواطؤ العلماء على تعديل من ليس بعدل غشا للدين وخيانة للمسلمين، فهذا لا يكون أبدا، وسيأتي بعد تفصيل هذه النقطة.

معرفة سيرة الرواة: إن معرفة سيرة الراوي وأحواله خلال مراحل عمره لهو خير شاهد على عدالته، فلن تجد أحدا يحافظ على التقوى والسمت الحسن طيلة عمره إلا إن كان باطنه نقيا كما هو حال ظاهره، قال تعالى عن نبيه، أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون، أي يعرفونه بصفاته الحسنة من صدق وأمانة وغيرها من الصفات التي تنافي الكذب، ويعرفونه برجاحة عقله التي تنافي الجنون، وقال تعالى عن المنافقين “ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول، والله يعلم أعمالكم”. فهؤلاء المنافقون لسانهم يخونهم ويظهر ما في بطونهم من التكذيب والغش، ومنه كذلك سؤال هرقل أبا سفيان عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي من خلالها يستبين صدقه صلى الله عليه وسلم في دعوته، حيث قال بعد أن أعلمه أبو سفيان أنهم لم يجربوا عليه كذبا ولا خيانة، إنه يبعد أن يدع الكذب على الناس فيذهب فيكذب على الله.

إن أهل العلم اعتبروا تمييز رواة الصدق من غيرهم واجبا شرعيا يسألون عنه عند الله، حيث هو الوسيلة المثلى لحفظ الدين في حفظ المصدر الثاني الرئيس لنصوصه وهو السنة، وكما قال أحد الأعلام: “لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”، ولشدة معايير القبول التي وضعوها عجب من عجب لمن قبلوه ليس لمن ردوه، حيث جعلوا خوارم المروءة من أسباب إسقاط الرواة، من مثل عدم مراعاة أعراف اللباس أو الأكل أو السمت ومثل هذه الجزئيات، وإن لم تكن في حد ذاتها إثما، اعتبارا أن من لم يحافظ على هذه الدقائق لم يكن أهلا لحفظ حديث رسول الله وأدائه.

إن هذا التشديد في قبول الرواة، وإن لم يكن مبررا في بعض الأحيان، يمثل السياج الذي أحاط به النقاد أحاديث السنة وقاية لها وحفظا من دخول من ليس أهلا لتبليغها، وقطعا لكل شك في عدالة حملتها، ذلك أن من حافظ طيلة عمره على حدود الشرع وكرس كل حياته لخدمة الدين، كيف يستحل الكذب على رسول الله الذي إن لم يكن كفرا فهو موعد فيه أشد الوعيد، هذا لا يكون أبدا لمن عرف أحوال البشر وسلوكهم، وحتى إن افترضنا جدلا وقوعه لأحد الرواة قبل أن يظهر حاله للنقاد المتتبعين، فلن يكون سلوكا جماعيا أبدا، فكيف بمن يدعي أن القوم اختلقوا كل هذه النصوص لخدمة السياسة أو المذاهب، ألا يستحيون؟ كيف يتفق كل هؤلاء الذين قضوا أعمارهم بين زاهد في الدنيا مجانب للسلاطين والوظائف الرسمية إلا القليل منهم، وبين ضارب في الأرض يسمع من الشيوخ في الأمصار لجمع الأحاديث وطرقها حفظا وخدمة للسنة، كيف يتفق فجأة كل هؤلاء على الكذب بل الكفر؟ في سبيل ماذا؟ بل بأي مقابل يبيعون آخرتهم؟ ثم كيف اتفق هؤلاء الرواة في الأمصار البعيدة على رواية نفس النصوص دون تجمع أو تواطؤ؟ أسئلة لن تجد إجابة لأنها محض خيال خرج من ذهن بعض منكري السنة دون تدبر للوازم هذا القول من المحالات والتناقضات، وتمسكا بسراب من الشبه لرد الحق. لكن هيهات ..

هذا يذكر بما يقوله الشيعة الروافض عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يزعمون أنهم ارتدوا كلهم عن الإسلام بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعضهم ممن يعدون على رؤوس الأصابع، بعدم تقديمهم لعلي رضي الله عنه وأرضاه في الخلافة. فنقول لهم: مقابل ماذا يبيع الصحابة دينهم الذي ظلوا عمرهم يضحون بالغالي والنفيس في سبيل إقامته، فهذا يعادي قبيلته وأهله، وهذا يخرج عن وطنه فرارا بدينه، والآخر يضحي بماله مقابل هجرته والتحاقه بنبيه. فهؤلاء تجشموا معاداة الدنيا كلها نصرة للإسلام، كيف يعقل ممن يقتل أباه في المعركة أن يستحل الكفر؟ وفي مقابل ماذا؟ لا شيء، إنه والله العجب ! أين عقول القوم؟ والله لو علمنا أن أبا بكر وعمر أغدقوا عليهم الأموال بعد ما ولوا الخلافة لما اتهمناهم لما لهم من سابقة، فكيف وهم لم يخصوا أحدا بشيء دون الناس، إلا من استحق شيئا لكفاءة أو سابقة. وبعد هذا كله، لو زعم أن الارتداد وقع من أحدهم لعجبت له العقول وحارت استبعادا لوقوع مثل ذلك ممن كانت له تلك السوابق من التضحيات والجهاد، فما بالك بمن يزعم هذا في كلهم في وقت واحد دون سبب ظاهر! هذا ولو فرض جدلا وقوعه من بعضهم لما تردد الآخرون عن إنكاره ورده، ولو وقع لنقل كما نقلت كل جزئيات عصرهم و عهدهم.

مثل من يزعم هذا كمثل من يسوغ كون رجل اعتاد إخراج ألف درهم صدقة لوجه الله كل يوم، ثم في إحدى الأيام يلقى ملهوفا يحتاج درهما واحدا لسد الرمق وحفظ الروح، فلا يعطيه ذلك الدرهم الحقير، دون أي مبرر أو سبب أثر في تغيير سلوكه، فهذا لو وقع من أحد الأشخاص كان بعيدا جدا، فكيف بمن يزعمه في طائفة عظيمة من البشر تفعله فجأة في وقت واحد اتفاقا، فتدبر.
والكلام فيما سبق يخص من له طول صحبة وسبق جهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس مسلمي الأعراب الذين ارتدوا بعده.

فكما أن هذا الحدث، أي ارتداد الصحابة الجماعي المزعوم، مستحيل الوقوع في عالم البشر، فمثله توافق هؤلاء الأجلة الأطهار من العلماء الذين شهدت لهم الأمة جمعاء بالتقوى والورع على اختلاق الكذب على لسان رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، دونما سبب ظاهر ودون نكير ولا تحذير بعضهم من هذا الحدث الجلل لو كان حقا.

أما الشرط الثاني وهو عدم الخطأ، فهو ما اصطلح على تسميته بالضبط، فسبيل إثباته كالآتي.

فلنبدأ بضرب مثل فيه عبرة: إذا جاءك أحد معارفك ممن لا يعرف بالأمانة والتحري بل لعلك جربت عليه بعض الكذب، فحكى لك أنه أثناء صلاة الجمعة الماضية دخل المسجد رجل أحمق، فاقتحم الصفوف وضرب الإمام بالعصا، قد لا تثق بحديثه. لكن، إن جاءك صديق آخر لا تعرفه بالصدق هو الآخر، فحكى لك نفس الخبر بتفاصيله، مع العلم أن صديقك الثاني لا يعرف الأول، ألن تجد نفسك مضطرا لتصديق الرواة رغم تهمتهم في أنفسهم؟ ألا يدل هذا على وقوع تلك القصة حقيقة، إن هذا التوافق مع عدم التواطؤ دليل على صحة الخبر، وهذا مع عدم أمانة الناقلين، فما بالك إن كان الناقلون صادقين ومن ذوي التحري والحفظ والضبط، ألا يكون هذا دالا دلالة أوضح على صدق الخبر أكثر وأكثر، فما بالك إن كان الرواة أكثر من راويين، أليس هذا أدل على وقوع الحادثة كما حكيت؟

ومن مثل هذا القياس استنبط أهل الحديث عدة قواعد، منها: أن الحديث بتقوى بكثرة طرقه، أو أن الحديث إن كان مما تدعو الدواعي إلى نقله فلم ينقل إلا من طريق واحدة، دل ذلك على ضعفه، صورتها في المثال السابق، كأن التقيت بالصديق الثاني، فلم يحك شيئا عما وقع رغم أنه صلى الجمعة في نفس المسجد، فهذا مما يدل على كذب الراوي الأول أو خطأه وبالتالي ضعف الخبر.

إذا فموافقة الراوي لغيره من الرواة دليل على صحة نقله وعدم خطئه، لكن إن انفرد الراوي بحديث ما، كيف العمل، فهنا وقفات لا بد منها:

الوقفة الأولى أن تعامل أهل العلم مع الرواة يكون بحسب درجاتهم من الحفظ والإتقان، فهم يبحثون في مرويات الراوي ويسبرونها مقارنة بروايات الرواة الآخرين لنفس الأخبار أو لما يشهد لها أو لضدها، فإن كان كثيرا ما يخالفهم ويعارضهم، لا سيما إن كانوا من الأثبات، لم يقبل انفراده بحديثه، وكثير من الاختلاف في قبول الرواة مبني على ما حد هذا الكثير من المخالفة وما حد القليل من الخطأ المقبول، والذي قد لا يخلو منه راو.

الوقفة الثانية، هي أن النصوص التي لم يأت نقل معناها ومضمونها عبر العديد من الروايات، وكانت مما نقل عن بعض الرواة فحسب، فهي لا تكون في أساسيات الدين ومهماته، فهذه إما منقولة بالتواتر، أو بالروايات المتظافرة المحفوفة بالقرائن الدالة على مضمونها، وإنما تكون تلك النصوص خاصة بتبيين جزء من الجزئيات الشرعية، كمثل وقت ابتداء الإفطار لمن أراد الإفطار من المسافرين في رمضان، أهو من بيته أو يشترط خروجه من قريته وبروزه، أو مثل: هل يجزئ رد سلام أحد الجماعة عنها كلها، أو غيرها من الأحكام التفصيلية الجزئية للدين.

ومما ينبغي التنبه له أن النصوص الصحيحة من السنة ليست كلها على نفس الدرجة من الصحة، فمنها المقطوع بصحته ومنها دونه، ولأهل العلم تفصيلات كثيرة في تحديد مراتب هذه النصوص ليس هذا مقام تفصيلها وإنما الغرض التنبيه على صحة منهج نقاد الحديث في جمعهم وحفظهم للسنن فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خيرا.

الوقفة الثالثة: أن السنة العملية المتواترة دلت على أن العمل بالأمر لا يتوقف على وصوله بطريق قطعي الثبوت كي يعمل به، أي بلغة الوقت: احتمال صدقه مائة بالمائة، بل دلت النصوص والسنة العملية أن الأمر إن كان الراجح صدقه فهو مما أجمع الرعيل الأول وأهل السنة والاتباع من بعدهم على العمل به احتياطا للدين ما لم يعارضه ما هو أقوى منه.

وهذا الذي قلت هو مقتضى الفطرة ومذهب العقلاء كافة في أمورهم العادية، فخذ مثلا من نفسك، أكلما أخبرك الصادق بأمر توقفت لأنه قد يهِم أو يخطئ أو يكذب، أم أنك تعمل بخبره ما لم يعارضه ما هو أقوى منه؟ إن أخبرك جارك الذي تعلم صدقه عادة بأن الكهرباء في حيك منقطع، هل تعمل بقوله فتشتري شمعا قبل الذهاب إلى البيت أم تذهب صفرا كعادتك ممنيا نفسك أن خبره يحتمل الكذب والخطأ والوهم؟ إن أخبرك طبيبك بوصفة لعلاج مرض ابنك، أتعمل بها أم تتوقف حتى تستيقن عدم خطئه أو تدليسه؟ وهل تعتبر مقصرا إن أهملت الوصية ريثما تتأكد فاشتد المرض أم لا؟ و في المقابل لن تلام إن أخطأ الطبيب لأنك عملت بالعقل و الفطرة.

ويجدر التنبيه هنا أن توقف بعض رواة الصحابة في قبول بعض الأخبار لا ينفي هذه القاعدة، لأن كل من ثبت عنه التوقف ثبت عنه الأخذ بخبر الصادق المنفرد في وقائع أخرى، منهم عمر رضي الله عنه، ثم ثانيا، هذا التوقف يكون لأمر آخر اقتضى ذلك، كمثل تربية الراوي على عدم الجرأة على الحديث، أو لأن الأمر مهم فاقتضى التثبت كما أوضحنا من قبل أن الأمر الجليل ينقله الجمع العميم، أو غيرها من الأسباب الخارجة عن محل النزاع.
هذا وصلى الله على نبيه محمد وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

سجل تفاعلك مع المقال
Love
Wow
Sad
Angry
تم تسجيل تفاعلكم مع "دلائل عقلية على صحة السنة النبوية" قبل بضع ثوان
Show Comments (1)

التعليقات

  • عبد الاله

    جزاك الله كل خير و أجزل لك الثواب.

    • Article Author
    • رد