دعوى الأرضية المعرفية
الانطلاق من القرآن بتجرد عن كل ما يشوش نظرتنا وجعله منهجاً لتفسير وتوجيه معتقداتنا وسلوكاتنا هو أفضل منهج لفهم الدين فهما صحيحا، وأفضل وسيلة لتعزيز وحدة اﻷمة ونبذ فرقتها.
اختيار المواضيع
اختيار المدون
ج1: إشكالية فهم الدين وفق أرضية معرفية
إشاعة بعض المعاصرين أن فهم السلف للقرآن كان باﻷرضية المعرفية لوقتهم لذا علينا فهم القرآن باﻷرضية المعرفية للحاضر، مجرد دعوى تنبئ بعدم التمكن من فحوى القرآن وبتصور الدين تصوراً خاطئاً.
والمقصود باﻷرضية المعرفية: المنظومة الفكرية واﻷخلاقية والاجتماعية السائدة في عصر ومجتمع محدد.هذه المنظومة هي في واقع اﻷمر منظومات متشعبة في عصرنا هذا إلى تيارات فلسفية ومناهج منطقية عريضة متنافرة بل ومتصارعة -وصل تأثيرها إلى العلوم التجريبية- مادية ومثالية، وجودية وميتافيزيقية، اجتماعية وفردانية، واقعية وتجريدية، أخلاقية وبراكماتية، صورية وتجريبية…
وفي هذا الصدد يتبادر إلى ذهن المتأمل سؤال: أي التيارات من كل هاته
يمثل اﻷرضية المعرفية لعصرنا الحاضر؟
وسؤال: إذا لاحظنا من خلال الواقع بروز تيار من هذه التيارات فهل بروزه
نتيجة لقوة حجته ومتانة بنائه واتفاق الجميع على خيريته، أم بروزه نتيجة للهيمنة
السياسية واﻹيديولوجية لمتبنيه؟
فهذان السؤالان هما ما يجب على مدعي هذه الدعوى الجواب عنهما وشرحهما
في مقدمة مشروعهم التجديدي-كما يزعمون- قبل الدخول فيما أثاروه من فوضى علمية إن
كانوا حقا أصحاب مشروع!
فعند استقراء كتابات هؤلاء المعاصرين -أو باﻷحرى خطبهم وبرامجهم التلفزية- نجد كلا منهم يتبع منهجا من المناهج سالفة الذكر دون اﻹفصاح عنه ويحاول إسقاط آيات القرآن عليه -بمعنى أن القرآن تابع وتوجه الكاتب متبوع- وهنا يكمن خطأ دعوى اﻷرضية المعرفية لفهم الدين، إذ كل منهم يتصور منهجه هو أصح التفاسير للدين لاويا أعناق النصوص لتخدم توجهه، فينطبق عليه قول اﻷقدمين: “اعتقد ثم استدل”.
وهذا ما وقعت فيه اﻷمة اﻹسلامية عند بداية التفرق في الدين بدخول شخصيات اﻹسلام-زعما- بأرضية ومعتقدات يهودية أدخلوها فيه لتدميره من الداخل- عبد الله بن سبإ أنموذجاً- وعند ترجمة كتب اليونان تأثر بها علماء فسروا الدين بأرضية يونانية أفلاطونية فجاؤوا بالأعاجيب، كالجهمية والمعتزلة بتعطيل صفات الله ونفي القدر ورد خبر الواحد…
ج2: الأرضية المعرفية عصر النبوة:
ولفهم خطإ الشق اﻷول لهذه الدعوى لا بد من العودة لتحليل الأرضية المعرفية عصر النبوة وقبله، وسأكتفي ببعض اﻷمثلة
المذكورة في القرآن: كاعتقاد الضر والنفع في الأشياء، والافتخار باﻷنساب، واﻹقراض
بالربا، فقد كانت هذه الخصال سائدة في المجتمع العربي قبل البعثة مشكلة أرضية
معرفية لا يخالفها إلا عاق لمجتمعه أو منبوذ.
فلما جاء اﻹسلام جعل يفكك هذه المنظومة بمنهج إلهي فيه تدرج، ووعد ووعيد، وبخطاب تارة عقلي وتارة
عاطفي، وبأسلوب قصصي وإنشائي… حتى تغيرت بنية عقل الفرد من متشبث بتلك اﻷرضية
إلى محارب لها مستعد للموت لاقتلاعها!! فلو كان فهمهم للإسلام وفق أرضيةِ قبل
البعثة لحاولوا تكييفه وفقها لا محاربتها!
وقد كانت تظهر بعض اﻷحيان حالات من هذه المحاولات (ذات أنواط[1]،
يا ابن السوداء[2]…) إلا
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتصدى لها لا لشيء إلا ليغرس في نفوسهم أن
القرآن وفق ما بينه رسول الله هو الوحيد الذي يجب التحاكم إليه وجعله منهجاً (لا
أقول أرضية) عقلياً وأخلاقيا واجتماعياً تخضع له كل اعتقادات الفرد وسلوكياته
لتستقيم حياته وآخرته.
وقد استطاع أصحاب رسول الله الوصول لهذا المستوى والوعي بأهميته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم -إذ وفاته دليل على اكتمال مهمته بجعل الدين منهجاً وليس تابعاً- ويحضرني هنا مثال عمر ابن الخطاب مع الحجر اﻷسود[3] الذي يدل دلالة واضحة على تغير منظومته الفكرية تماماً من جاهلية إلى إسلامية.
وكون اﻹسلام كما كان على عهد رسول الله منهجاً لا يتغير لا ينافي كونه صالحاً لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة، ﻷنه بكل بساطة جاء بما يلائم ولا يتعارض مع فطرة اﻹنسان وميكانزماته العقلية، فهل يعقل أن يشكك أحد في أن 1+1=2 ، وأن الكل يتضمن أجزاءه، وأن الكذب خصلة مذمومة، بدعوى تغير الزمان؟! فهكذا اﻹسلام جاء بمجموعة قواعد صحيحة في كل زمان ومكان لموافقتها لفطرة اﻹنسان وبنيته العقلية، لا يستنكرها إلا من تغيرت فطرته وعقله بتبنيه منهجا غير اﻹسلام.
ج3: مبدأ الشرعية
سار علماء الأمة المعتبرون خلفاً عن سلف على المنهج الذي رسخه رسول الله في الصحابة بالتحاكم للقرآن وفق ما بينه رسول الله في سنته، فجعلوا منهج القرآن أصل اﻷصول. واستنبطوا منه القواعد المنهجية التي تضبط فكرهم ومعتقداتهم وسلوكاتهم بعد استقرائهم ﻵياته وسبرهم لمعانيها. فأسسوا بذلك علوما قائمة على قواعد عقلية مطلقة ومنطقية صحيحة صالحة لكل زمان ومكان مستخرجة من الوحي موافقة لفطرة اﻹنسان وبنيته العقلية، وسموها “شرعية” نسبة إلى الشرع وتمييزا لها عن القواعد الفلسفية النسبية التي مصدرها شخص بحمولته الفكرية والثقافية الخاصة به، لكي لا يدخل في الشرع ما ليس منه، ولكي لا يصير الشرع نسبياً يتبع أهواء الناس {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ}[المؤمنون:71[، لذا فمبدأ الشرعية هو أول شرط لمن أراد الغوص في الدين وفهم معانيه دون زلل.
وسأذكر قاعدتين على سبيل المثال لا الحصر استنبطتا من الوحي زل فيهما كل من أراد فهم الدين وفق أرضيته المعرفية.
– اﻷولى: اﻹيمان قول باللسان وتصديق بالجنان(القلب) وعمل باﻷركان (الجوارح) له حد أدنى أطلقوا عليه اسم “مطلق اﻹيمان” يتحقق في كل من نطق بالشهادتين، وحد أقصى أسموه “اﻹيمان المطلق” وهو إيمان اﻷنبياء والرسل والملائكة، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
– الثانية: “حمل المطلق على المقيد” وهي قاعدة منطقية جد مفيدة للجمع بين نصين إذا ظهر تعارض بينهما، كقوله تعالى: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام : 103] آية مطلقة في عدم رؤية الله عز وجل إطلاقاً، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة] مقيدة بالمؤمنين في اﻵخرة، فبتطبيق القاعدة لا يلغى معنى هذه اﻵية أو يتأول معناها لمعارضتها اﻵية اﻷولى، بل يُجمع بينهما بكوْن اﻷولى عامة والثانية خاصة بفئة معينة توفرت فيها شروط هذا الامتياز.
ج4: أخطاء فهم الدين وفق أرضية معرفية غير شرعية؛
عرف التاريخ الإسلامي عدة محاولات لفهم القرآن أو تأويله وفق اﻷرضية المعرفية لأصحابها مما جعل للآية الواحدة عدة تفاسير متناقضة كلما انتقلنا من تفسير لآخر حتى أصبح لزاماً على المطلع أن يعرف توجه المفسر ومعتقده قبل قراءة تفسيره، وكأن القرآن رواية أو نص نسبي متعدد القراءات!
ففي حقبة الخوارج والروافض ظهرت تفاسير وتأويلات للقرآن وفق الرؤية السياسية لكل معسكر من المعسكرين، فالفريق اﻷول اتخذ من التكفير-بآيات القرآن- ذريعة ﻻستباحة دماء وأعراض الناس لتحقيق مآربهم وطموحاتهم السياسية، والفريق الثاني جعل من دعوى حب آل البيت مطية كذلك للوصول إلى الحكم، فاستعملوا التفسير الباطني للقرآن حيث أخرجوا كل آيات بل وكلمات القرآن عن معانيها وجعلوها دالة على آل البيت أو على أعدائهم-زعموا-.
بعد ذلك، خصوصاً بعد ترجمة كتب اليونان ظهرت فرق أخرى تسعى لفهم القرآن لكن وفق أرضية معرفية ومنظومة فكرية يونانية فجعلوها قاعدة، على آيات القرآن أن تخضع لها، كقول أرسطو في الخالق: “المحرك الذي لا يتحرك” نفوا بها صفات الله والعلو والكلام…فسارعوا إلى تأويل كل كلمة في القرآن تدل على عكس ما يعتقدون، وبعضهم جعل يبحث في القرآن دليلا على صحة القاعدة-فالقصد صحيح-لكن الطريقة خاطئة، كما فعل الرازي في تصحيحه للقاعدة باستشهاده بقصة إبراهيم عليه السلام مع اﻷجرام السماوية فذهب إلى تأويل معنى “أفل” بالحركة والحدوث[4].
وبازدهار علوم اللغة ظهرت تفاسير توقفت عند الحقيقة اللغوية للكلمات فأهملت الحقيقة الشرعية التي هي أساس التفسير كالذين فسروا اﻹيمان بالتصديق فأخرجوا العمل عن مسمى اﻹيمان، وقد نتج عن هذا اليومَ دعاة وحدة اﻷديان الذين جعلوا كل من آمن بوجود الله مسلماً قد يكون إيمانه أفضل من إيمان المسلم.
فباختلاف التفاسير الناتجة عن اﻷرضية المعرفية يتبين أن هذه اﻷخيرة لا
تصلح لفهم القرآن فهما صحيحاً، فباﻷحرى تفسيره وفقها، وبهذا نستنتج أن الانطلاق من
القرآن بتجرد عن كل ما يشوش نظرتنا وجعله منهجاً لتفسير وتوجيه معتقداتنا
وسلوكاتنا هو أفضل منهج لفهم الدين فهما صحيحا، وأفضل وسيلة لتعزيز وحدة اﻷمة ونبذ
فرقتها.
[1] : حديث ذات أنواط أخرجه الترمذي في سننه (كتاب الفتن:ح.2180)، وقال: حسن صحيح،وقال الألباني: (صحيح).
[2] : أصل القصة في صحيح البخاري (كتاب الإيمان:ح.30) ومسلم(كتاب الأيْمان:ح.1661) وغيرهما دون لفظة “ابن السوداء”.
[3] : الأثر متفق عليه (خ:1520، م:2238).
[4] :انظر تفسير الرازي للآية:76 من سورة الأنعام، المسألة السادسة.
شيء واحد يسمعه الإنسان ألف مرة، وفي كل مرة يأبى أن يقبله، ولكن يأتي عليه حين ينفتح فيه قلبه المغلق دفعة واحدة لذلك الشيء نفسه، فبينما كان هو لا يجتاز أذنيه من قبل، إذا به الآن...
إن الحديث عن مساواة المرأة بالرجل حق يقصد به باطل، وتسوية مآلها الظلم والإجحاف، بل منطقيا هو من باب طلب تسوية المتغايرات والمتقابلات، كمن يحاول مساواة الليل بالنهار، والأبيض...
التعليقات