ربّة البيت ودورها في الإصلاح والتنمية
إن الإسلام لا يرى في المرأة أنها نصف المجتمع فحسب، بل يرى فيها أكثر من ذلك حين مكنها - بما أناطه بها من مهمة تنشئة الأجيال - من صنع أفراد المجتمع الذي يُحكم بنجاحه إذا نجحوا وبفشله إذا فشلوا ..
اختيار المواضيع
إن الإسلام لا يرى في المرأة أنها نصف المجتمع فحسب، بل يرى فيها أكثر من ذلك حين مكنها - بما أناطه بها من مهمة تنشئة الأجيال - من صنع أفراد المجتمع الذي يُحكم بنجاحه إذا نجحوا وبفشله إذا فشلوا ..
التشدد في الدين لا يأتي بخير، ولا يمكن أن يخرج لنا جيلا من الفتيات المسلمات يحملن الإسلام علمًا وتطبيقًا بتوسط واعتدال، لا إفراط فيه ولا تفريط ..
شاع بين المستشرقين وحتى بين بعض من كتب من المسلمين في تاريخ تدوين القرآن اعتماد المسلمين على أدوات بدائية في كتابة القرآن مثل عسب النخل والأقتاب وأكتاف الإبل والأحجار ونحو ذلك .. مما أوجد تصورا ضبابيا عن طريقة كتابة القرآن في العهد النبوي، حتى ظن بعض الباحثين أن نقل القرآن مكتوبا كان يحتاج إلى قافلة من الجمال!!
أكثر مُنكري السنّة لا يعلمون شيئا عن صفة جمعها ولا عن المعايير الدقيقة التي وضعها النقاد من أهل الحديث لكي يميزوا صحيحها من ضعيفها، ولا يفطنون لإمكانية استعمال عدة طرق علمية منطقية يُتوصل من خلالها إلى الوثوق - بل في بعض الأحيان: الإيقان - بصحة الأخبار ونسبتها إلى قائليها..
القول بأنَّ الإلحاد صار ظاهرة أو أشبه بالظاهرة محليّاً وعالميّاً، لا يعني أن نجنح نحو التهويل والتضخيم، سواء للطرح الإلحادي أو لأعداد المرتدين والساقطين في أوحاله. كما لا يعني أن نغض الطرف عنه ونهوّن من شأنه ونتغافل عن دؤوبه للتغلغل بين مختلف شرائح المجتمع، خصوصاً شريحة الصغار والشباب والأميين.
أليس من العته والاعتباطية أن تكون مقاطعة الزواج؛ وسيلة للحد من ارتفاع تكاليفه، وأن يكون الحث على "تعنيس" النساء، الذي هو في حد ذاته "تعنيس" للرجال؛ مأتى للحد من المغالاة في المهور، وأن تكون الرغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ مطية للانتقام من النساء؟
وتزيدني الأيام المتتالية، وما أشاهده فيها من عجائب الفهم، وغرائب النظر والاستدلال، يقينا بأن كثيرا من الأزمات كان بالإمكان تفاديها، لو أن جاهلا تعلّم، أو – على الأقل – لم يتعالم، فتأنى قبل أن يتكلم !
من التصورات الشائعة بين كثير من الناس؛ أن المرأة القائمة بوظيفة التربية والعناية بالبيت؛ إنسانٌ معطل المواهب، موءود القدرات؛ لا يؤدي دورا في تنمية المجتمع وترقية النوع البشري!
ويرى البعض –بشكل مطلق- أن المجتمع الذي يكثر فيه هذا الصنف من النساء؛ كالإنسان الذي يتنفس برئة واحدة!
وأريد في هذه السطور أن أناقش –بما يناسب حجم المقال- هذا التصور لإظهار ما في زواياه من تدليس، وكشف ما في خباياه من مغالطات:
وأبدأ بالتذكير بأن الأصل الشرعي في هذا الموضوع: قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}(الأحزاب33).
و بين نبينا صلى الله عليه وسلم الآية بقوله: «قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن»(متفق عليه).
والفقه المستنبط من الآية والحديث يشير إلى أن الأصل في علاقة المرأة بالبيت هو القرار والاستقرار، مع جواز الخروج للحاجة؛ كطلب علم أو صلة رحم أو نزهة أو العمل للتكسب أو إسداء خدمة للمجتمع[1].
ويؤكد الفقه المذكورَ: الحديثُ الذي رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: طُلّقت خالتي ثلاثا فخرجت تَجُذُّ نخلا لها فلقيها رجل فنهاها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فقال لها: «اخرجي فجذي نخلك».
وإذا نظرنا إلى واقع الحياة وتقلّباتها، نجد أن المرأة قد تضطرها صروف الدهر إلى التكسب لتقيم أودها؛ إما لفقدان العائل أو رغبة في مساعدته على أعباء المعيشة وتكاليفها، والمجتمع –عموما – بحاجة إلى كفاءات نسائه ومواهبهن؛ فكان هذا من الحاجة التي تبيح لهن الخروج بشكل عام.
أين هو الإشكال إذن؟
الإشكال يكمن في الفكرة التي تزعم بأن دور المرأة داخل البيت دور رجعي يجب أن يعطل؛ وأن يصير الأصل في المرأة هو العمل خارج البيت وأن تكون مساوية للرجل في ذلك.
ووجه الإشكال أن هذه الفكرة وضعتْ سفينة الحياة الأسرية في مهب عواصف مدمرة، وأمواج مهلكة يعاني المجتمع والدولة من آثار دمارها المهول.
ولتحليل الموضوع؛ نستحضر بأنه لا بد – في خضم الحياة المجتمعية – للمرأة من عمل ولا بد للرجل من عمل، فهما متساويان من هذه الناحية.
لكن اختلاف طبيعتهما البيولوجية والنفسية من جهة، وتنوع متطلبات الأسرة والمجتمع والدولة من جهة أخرى؛ هذا الواقع يدل على أنه ليس من المنطق المساواة بينهما في مجال العمل، وأنه لا بد من التفريق بينهما في نوع العمل.
يقول أحد العلماء: “إذا نظرنا إلى جنس انقسم إلى نوعين فيجب أن نقول إنه لم ينقسم إلى نوعين إلا لأداء مهمتين، وإلا لو كانت المهمة واحدة لظل الجنس واحدا، ولم ينقسم إلى نوعين؛ فالليل والنهار نوعان لجنس واحد هو الزمن، وهذا التنوع أدى إلى أن يكون لليل مهمة هي السكن، وأن يكون للنهار مهمة هي السعي والكدح. والرجل والمرأة بهذا الشكل نوعان لجنس هو الإنسان؛ فكأن هناك أشياء تطلب من كل منهما كإنسان، وبعد ذلك أشياء تطلب من الرجل كرجل ومن المرأة كامرأة”.
وقد راعى الإسلام هذه الحقيقة فيما شرعه من جعل الأصل في المرأة قرارها في البيت؛ لا لمنعها من الخروج؛ ولكن للفت الانتباه إلى أن وظيفتها البيتية من أهم الأعمال التي تسهم في استقرار المجتمع ونمائه.
فهو عمل معتبر ولا يقل أهمية عن باقي الأعمال المجتمعية؛ وقد يكون أهم بكثير من بعضها.
وأساس هذا العمل يتمثل في رعاية البيت والقيام على مصالحه، وضمان أداء وظائفه؛ وأعظمها: تربية الطفل تربية ذات أبعاد مهمة وحساسة، تؤدي دورا جوهريا في رقي المجتمع وتنميته.
ووظيفة التربية هذه من أقدس الوظائف وأدعاها للعناية والاهتمام؛ فإن الطفل عندما يخرج من ذلك العالم الغيبي يكون مرآة خالية من جميع الصور، مبرأة من جميع الشوائب الأخلاقية والمعايب النفسية، وقابلة لأن ترسم كل صورة عرضت إليها على علاتها، ولكل من هذه الصور لوازم وآثار تؤثر على وجدان الطفل عندما يشب وتسوقه رغم أنفه إلى الوجهة التي تهيئها له.
فإما الجبن أو الشجاعة وإما الكرم أو البخل وإما البشاشة أو العبوس… إلى غير ذلك من الفضائل والرذائل التي ما هي إلا آثار تلك الصور التي ارتسمت في مخه وهو خلي الذهن من كل شيء، فإذا كان الناس قد اعتادوا على أن ينظروا إلى من ورث مالا فأساء التصرف فيه، بعين الآسف المتلهب؛ فكان بالأولى يجب عليهم أن ينظروا بتلك العين إلى الأم الجاهلة بشرائط تلك التربية، بل شتان بين كنز يبذر وبين نفس كريمة تقتل قتلا أدبيا، فيشب صاحبها رغم أنفه جائحة على بني جلدته ومصيبة على إخوان ملته، أو بالأقل غير نافع لقومه وعشيرته، مع أنه لو كان ممن أسعده الحظ فأحسنت أمه تربية مواهبه وتنمية ملكاته لشب وهو واحد من أولئك الأفراد الذين تسعد بهم الأمم وترقى بفهمهم إلى أوج الجلال والعظمة”.
والواقع أكبر دليل على خطورة تخلي المرأة عن هذا العمل أو التقصير فيه؛ ويتمثل هنا فيما انتشر في الأمة من هذا القطيع المدمر من الشباب والشابات الذين يشكلون حجر عثرة في وجه صلاح مجتمعات الأمة ونهضتها، بما هم عليه من انحراف في السلوك والخلق، وضعف في العلم والعمل؛ همُّ الواحد منهم لا يكاد يتجاوز شهواته، وسعيه يدور في فلك اللهو ومصالحه المادية فحسب.
إن الأمة لن يرجع إليها أبدا عزها الغابر، ومجدها الأثيل، مع كثرة هذا النوع من الناس بين أفرادها الحيويين!
والإصلاح الفعال والتنمية المؤثرة، لا يضطلع بهما إلا الشباب الذي تلقى تربية تجعل منه إنسانا جادا وواعيا ومستعدا للبذل في سبيل وطنه وأمته.
ولاشك أن البيت هو أول وأهم من يؤدي دورا في صنع هذا الإنسان، وأنه المسؤول الأول عن كل الانحرافات التي تجعل شبابنا بعيدين عن أداء واجبهم في نماء المجتمعات ونهضة الأمة.
والمرأة شرعا وطبيعة هي المؤهلة للاضطلاع بالجانب الأكبر من هذه المسؤولية؛ كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف:
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:”ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته … والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم“.(رواه مسلم).
قال العلماء: “الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وهو ما تحت نظره؛ ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته”.
فربة البيت مطالبة بالقيام بمصالحه ومتعلقاته، وهي أمانة ومسؤولية، تجعلها على قمة هرم العاملين والمسْهمين في إصلاح المجتمع وتنميته.
ولا ينبغي لعاقل أن يماري في أن البيت أحوج إلى المرأة من حاجة المحاكم والوزارات والإدارات والشركات إليها. وهذه المرافق لا تتضرر بغياب المرأة كما تضرر بذلك الأسرة. وكل منصف متجرد يعلم أن حاجة الولد إلى أمه أعظم من حاجة المجتمع إلى قاضية تنصف المظلوم وتعاقب المجرم، أو وزيرة تدبر بعض الشؤون السياسية أو الاقتصادية أو غيرها,فضلا عما هو دون ذلك من الأعمال؛ فإن هذه الأخيرة تعوض، أما الأم فلا تعوض أبدا.
فهذه الحقيقة الهامة؛ راعاها الإسلام في تشريعه المعجز، وجعلها نصب عينيه حين أمر المرأة أن يكون وجودها في البيت هو الأصل.
وتأمل كيف جاءت أحكام الشريعة – التي لها علاقة بالباب – منسجمة مع هذا الأصل؛ والتي منها:
إعفاء المرأة من وجوب شهود الجمعة، ووجوب أداء الصلوات الخمس في المسجد، ووجوب المشاركة في الجهاد، ووجوب السعي لتحصيل قوت الأسرة…
فإن من الحكمة البالغة في ذلك: مراعاة رسالتها الحضارية، وتفريغها لها، وتمكينها من أدائها على أكمل الوجوه.
وقد راعى التشريع الرباني كذلك ما هو مشاهد من حاجة كثير من النساء للعمل خارج البيت للتكسب، وحاجة المجتمع والدولة للمرأة كطبيبة أو ممرضة أو معلمة أو سياسية أو ناشطة في أعمال اقتصادية أو اجتماعية ..أو غير ذلك؛ فضلا عن حاجتها للخروج لأداء حق أو تحصيل مطلب.. فلم يشرع حكما يمنعها من أداء ذلك كله.
إن الإسلام لا يرى في المرأة أنها نصف المجتمع فحسب، بل يرى فيها أكثر من ذلك حين مكنها – بما أناطه بها من مهمة تنشئة الأجيال – من صنع أفراد المجتمع الذي يُحكم بنجاحه إذا نجحوا وبفشله إذا فشلوا.
وهذه الصنعة الشريفة لا تدانيها أهمية؛ صنعة تتخذ فيها المرأة قرارت سياسية، أو أخرى تقوم فيها بترتيبات إدارية، أو غير ذلك من الوظائف والأعمال..
فأحسن الله عزاءنا في فكر العلمانيين والمستغربين الذي يرى في حكم الإسلام تخلفا ورجعية، بينما هو من أهم عوامل الإصلاح والتنمية.
ولابد أن أشير هنا إلى أن هذه المصالح المتوخاة من الحُكم المذكور لا تظهر، ويكون لها وزن وتأثير إلا إذا كانت ممارسة المرأة لوظيفة تربية الأطفال قائمة على دراسة قوانين هذه التربية ومطالعة أسرارها وسبر أغوارها، وقائمة على الوعي التام بالبعد الحضاري لهذه الوظيفة، وهذا أمر تفتقده – للأسف – جل نسائنا بسبب فشو الجهل والأمية، وبسبب انتشار الثقافة المعكوسة التي تجعل المرأة العاملة خارج البيت في مرتبة أعلى من مرتبة المرأة العاملة داخله، بل تجعل هذه الأخيرة يدا مشلولة في جسد الأمة، وآلة معطلة في مصانعها!
مما أدى إلى نفور أكثر النساء من عمل البيت واحتقاره ..
كما أؤكد أن نجاح ربة البيت في رسالتها السامية هذه، متوقف
إلى حد كبير على قيام شقيقها الرجل بواجبه، أبا وابنا وأخا، ومتوقف أيضا على تحمل
المجتمع لمسؤولياته في هذه القضية الحساسة ..
[1] حوائج أضيفت فتعم، والحديث نصٌّ في أنها تخرج للحاجة؛ وهو قول الجمهور من العلماء، خلافا لما ذهب إليه بعضهم كابن العربي والقرطبي من أنها لا تخرج إلا لضرورة.
التعليقات
مقال رائع .. نحتاج مقالات اخرى على هذه الشاكلة تخص الفتاة و الشابة المسلمة .. انا استعين بهذه المقالات لأقدمها لخطيبتي و اختي و بنات عمي ..اريد مقال مبسط لمبتدئة في الالتزام الديني