حول ثقافة الاختلاف وتدبيره (2)
هذه بذرة مشروع في تدبير الاختلاف، بذرة مشروع حري بالدراسة والنظر والتأمل والتدبر؛ لأن القرآن الكريم وضع أسس التعامل مع المخالفين كيفما كانوا: سواء من داخل البيت المسلم أو من خارجه..
اختيار المواضيع
هذه بذرة مشروع في تدبير الاختلاف، بذرة مشروع حري بالدراسة والنظر والتأمل والتدبر؛ لأن القرآن الكريم وضع أسس التعامل مع المخالفين كيفما كانوا: سواء من داخل البيت المسلم أو من خارجه..
تعتبر الربوبية فلسفة عدمية عقيمة، فهي لا تعطي إجابات شافية عن الأسئلة الوجودية الكبرى الملحة لكل إنسان على وجه الأرض، وقد رد القرآن الكريم على القائلين بمثل هذه المقالة (عبثية الخلق)..
الانطلاق من القرآن بتجرد عن كل ما يشوش نظرتنا وجعله منهجاً لتفسير وتوجيه معتقداتنا وسلوكاتنا هو أفضل منهج لفهم الدين فهما صحيحا، وأفضل وسيلة لتعزيز وحدة اﻷمة ونبذ فرقتها.
إنّ قضيّة الإيمان أو الإلحاد، والالتزام بمقتضياتهما في الفكر والسلوك، تستحق من العاقل ألا يتعامل معها بسذاجة لا مبالية وسطحيّة عابرة..
نحن اليوم أمام وثنية جديدة اسمها العلم التجريبي، أنبياؤها هم علماء البيولوجيا والطب والفلك والفيزياء الذين يتبنَّون المنهج العلموي..
إن الكلام عن مصاحف الصحابة في مقابل مصحف عثمان مجرد مغالطة اعتمدها المستشرقون للتشكيك في صحة القرآن..
لا ينقص من قدْرك أو قيمة فكرتك أو مشروعك العلمي أو الدعوي إن تولى غيرك مهمة التنزيل والتوقيع ..
الحياة تتكامل بجميع أجزائها لا بمفرداتها، كقطع فسيفساء تعضد بعضها بعضا لتشكل لوحة ذات منظر متماسك ..
أجل، ذلك التعبير اليسير الذي يظهر على مُحَيَّاك، والذي لا يتطلب منك أي مجهود، ولا يأخذ منك أكثر من ثانيتين، ولا تنفق عليه أي شيء، هو في ديننا الحنيف صدقة !
تجلّت فوارق كبيرة في النتاج الأدبي فيما قبل زمن الحداثة وما بعدها، وظهر التأثر بالغربيّ المستورد في محاولة للتماهي مع أدواته، بوصفه المثال الأقوى والأوضح..
سبق في المقال السابق أن وقفنا –باقتضاب- مع مجال الاختلاف وتدبيره مع غير المسلمين في القرآن الكريم، ورأينا فيه أن هذا المجال يتنوع إلى فرعين بحسب العلاقة التي تجمع المسلمين بغيرهم: وهي إما علاقة سلم أو علاقة حرب، ولكل حالة ما يناسبها من تدبير الاختلاف.
أما المجال الثاني من مجالات ثقافة الاختلاف وتدبيره، فتدبير الاختلاف بين المسلمين أنفسهم:
وهذا مجال أهم من سابقه؛ لأن البيت الداخلي لا يمكن أن يتماسك وفيه صراع بين أفراده وتطاحن بينهم. والتعايش السلمي مع المخالفين يبدأ أولا مع الموالفين.
ويشمل هذا المجال كل أنواع العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها…
وأهم ملاحظة نلاحظها في هذا المجال: أن القرآن الكريم عُني بهذا النوع من تدبير الاختلاف أكثر من النوع الآخر المتعلق بالمخالفين في الدين، وهذا فيه ملمح إلى أن عمق الرسالة الإسلامية تبدأ أولا من المسلمين أنفسهم، قبل أن تنتقل شعاعها لغيرهم. ولا يمكن إيصال رحمة الإسلام إلى العالمين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، والمسلمون ليسوا رحماء فيما بينهم: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29].
والقرآن يعالج اختلافات التجمعات المسلمة باعتبارها مجموعة بشرية، يسري عليها من التصرفات ما يسري على باقي المجتمعات.
وهذا المجال يمكن تقسيمه إلى حقلين دلاليين رئيسيين هما:
– تدبير الاختلاف بين مكونات الأسرة.
– تدبير الاختلاف بين مكونات الأمة.
وكلا الحقلين يتوزعان على حقول فرعية أخرى.
أولا: تدبير الاختلاف بين مكونات الأسرة:
1-تدبير الاختلاف بين الزوجين:
ونجد داخل هذا الحقل مجموعة من المفاهيم منها: النشوز-الشقاق-الطلاق.
* النشوز:
اختلف المفسرون في ما يصدق عليه مفهوم “النشوز”، ومن المفاهيم المعتبرة التي فُسر بها هذا المفهوم: ابتعاد أحد الزوجين عن أحكام الله في تعامله مع الآخر.
والنشوز كما يكون من المرأة يكون أيضا من الرجل. قال تعالى في نشوز المرأة: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ [النساء: 34]، وقال في حق الرجل: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا﴾ [النساء: 128].
وقد قدم القرآن الكريم تدابير للنشوز، منها: الصلح – الوعظ – الهجر…
* الشقاق:
الشقاق مرتبة أعلى من النشوز وأدنى من الطلاق، فهو يتعدى العلاقة الداخلية بين الزوجين، لأن فيه تدخل لغير الزوجين في شؤونهما (الحكمان).
والشقاق يكون من الزوجين معا، بخلاف النشوز الذي يكون من طرف واحد؛ لذلك كان تدبير هذا النوع من الاختلاف يحتاج إلى تدخل طرف ثالث في القضية للإصلاح: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء: 35].
* الطلاق:
وهو أعلى مراتب الاختلاف، وآخر تدبير لميثاق الزواج، إذ به تنحل عصمة الزوجين. والطلاق في الأصل حل من الحلول، ومن المفروض أن يكون تدبيرا لاختلاف الزوجين حتى يخرجوا من عش الزوجية بأقل الخسائر، ولا ينبغي أن يكون سببا في زيادة المشاكل، قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء: 130].
والطلاق ورد في القرآن بعدة أسماء متقاربة، فقد ورد بهذه الصيغة (الطلاق) وورد أيضا بلفظ: الفراق والتسريح…
2- تدبير الاختلاف بين الآباء والأبناء:
وردت آيات في القرآن الكريم ترشد الآباء والأبناء إلى وسائل حفظ العلاقة بينهم في جو من الطيبوبة والبر والإحسان، فكما أوصى تعالى الوالدين بالتربية الحسنة في عدة آيات منها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6]، ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: 233]، ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: 82]، فإنه أوصى الأبناء بالآباء أكثر، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83]، وقد تكررت آية الإحسان للوالدين وطاعتهم في مواضيع كثيرة من المصحف الشريف.
وعموما، يمكن تلخيص المفاهيم الموجهة لعلاقة الأبناء بالآباء في المفاهيم الرئيسية الآتية:
– الإصلاح والصلاح.
– الإحسان / البر.
– المصاحبة بالمعروف.
– الطاعة في المعروف.
ثانيا: تدبير الاختلاف بين مكونات الأمة:
1- تدبير الاختلاف بين مكونات المجتمع:
يتقاطع هذا الحقل مع كل الحقول، إذ المجتمع هو -في النهاية- الصيغة المركبة لكل أشكال وأطياف الأمة، فهو من هذه الناحية عام، ومن ناحية تخصص بعض الحقول بمفاهيم خاصة كالأسرة والأبوين والطوائف المسلمة… فهو أضيق من العموم السابق، فالمجتمع هنا يراد به مجموع العلاقات الاجتماعية العامة المتنوعة.
ونجد في هذا الحقل مجموعة من المفاهيم المنظمة لعلاقة المجتمع، وبها يكون تدبير الاختلاف، منها:
– العفو والصفح: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا﴾ [النور: 22].
– العفو وكظم الغيظ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 134].
– الحلم والصبر: الأمثلة فيه بالمعنى، وجل ما ورد في الآيات من الصبر، عام يشمل كل الحقول، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ…﴾ [البقرة: 155]، ومثيلاتها في القرآن الكريم.
2- تدبير الاختلاف بين الطوائف المسلمة:
جل المفاهيم المعتبرة في تدبير الاختلاف في الحقول الأخرى معتبرة في هذا الحقل أيضا، والجديد هو اعتبار حالة الوضع، فمفهوم الطائفة له اعتبار أخطر من مفهوم الأسرة، لذلك كانت تلك المفاهيم لها شحنة دلالية زائدة هنا.
وتدبير الاختلاف الحاصل بين الطوائف المسلمة يتم عبر عدة قنوات، من ذلك:
– التبين من الخبر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6].
– التحكيم إلى الحاكم: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65].
– إصلاح ذات البين: ﴿َاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: 1].
– عدم التفرق: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].
– عدم التنازع: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
– التشاور: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]، وكذا قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38].
– الإصلاح: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: 9]، ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9].
– القتال: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: 9]، والقتال آخر الدواء كالكي، والقتال لا يعني القتل، فالقتال فيه تفاعل من جهتين، وهو من باب التدافع الذي لا بد منه ليستمر الصلاح والعدل.
– تأليف القلوب (=الأخوة): ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103].
هذه بذرة مشروع في تدبير الاختلاف، بذرة مشروع حري بالدراسة والنظر والتأمل والتدبر؛ لأن القرآن الكريم وضع أسس التعامل مع المخالفين كيفما كانوا: سواء من داخل البيت المسلم أو من خارجه.
التعليقات