المعاملات التجارية في القرآن بين الحقيقة والمجاز
إن للقرآن الكريم بحق أسلوبا تعبيريا معجزا في رصف المعجم والتركيب والصور لخدمة المعاني، ثم رصف هذه لتحقيق مقاصد دلالية ونفسية محددة ..
اختيار المواضيع
إن للقرآن الكريم بحق أسلوبا تعبيريا معجزا في رصف المعجم والتركيب والصور لخدمة المعاني، ثم رصف هذه لتحقيق مقاصد دلالية ونفسية محددة ..
إنه من السهل أن تقنع من تعطلت قواه التفكيرية، وآلياته العقلية؛ بأن يشك في العواقب، بل بأن ينفيها وذلك عن طريق تمييع النتائج، وتمويه الأحداث، أو عن طريق تضخيم فكرة المساس بالشرع..
إنّ ثقافة ما بعد الحداثة تعمل بكلّ أجهزتها على إخضاع الناس للاعتقاد بعدم وُجود حقيقة مطلقة وموضوعيّة، وتقوم على إجبارهم على المساواة والتّسامُح المُفرِط مع الجميع، الذي لا يقِف عند احترام حقّ الاختيار فقط بل الاحترام والمُداهَنة وعدم المساس بحقّ الآخر في الكُفر والفُجور بأمرٍ أو نهي. فنحن أمام جِهازٍ ثقافيّ يسلِب منّا حقّ الاستعلاء الإيماني كونُنا على حقّ، ويسلب من قلوبنا كلّ مُمانعة، ويعمل على جعلِنا نتطبّع مع الشذوذ عن الفطرة.
لا يختلف اثنان أن من أهم المحركات للإنسان نحو العمل الصالح ومعالي الأمور هو وجود "قدوة حسنة" ماثلة أمام عينيه، يهتدي بهديها ويستن بسنتها.
متى نجد إبداعا ذاتيا، ينبع من تاريخ الأمة وهويتها وثقافتها، ويعالج واقع الناس بما يحمله من حمولة رسالية، بعيدة عن أهواء الغرب، ورغبات السوق؟
ذلك أن من كان يؤمن باليوم الآخر وما فيه من المواقف الصعبة والمهولة، سهل عليه فعل الخيرات وترك المنكرات..
وزاد الطين بلةً غياب وتغييب المشايخ الصادقين الذين كتب الله لهم القبول والرفعة في نفوس الناس، وذلك إما بسجنهم أو محاربتهم أو إسكاتهم، فخلتْ الساحة الإعلامية تقريباً لمشايخ السلطة الذين يتوجس منهم العامة قبل الخاصة..
فهؤلاء هم أسلاف من يدعو اليوم إلى رفع التجريم عن كل العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، من شذوذ وزنى، محصن وغير محصن، فعُلم أن هذه الدعوة ليست جديدة، فقد سبقهم المزدكية إلى الفسوق والإباحية، وإلى الفجور والفوضوية، وإلى الفساد والشهوانية..
إن العاقل ليحار عندما يمعن النظر في حال أمتنا، و إن باغي الإصلاح ليقف مشدوها من أين يبدأ و كيف يتصرف، أالأخلاق، أم المفاهيم و الثوابت، أم العدو المتربص بل المدمر المخرب...
شيء واحد يسمعه الإنسان ألف مرة، وفي كل مرة يأبى أن يقبله، ولكن يأتي عليه حين ينفتح فيه قلبه المغلق دفعة واحدة لذلك الشيء نفسه، فبينما كان هو لا يجتاز أذنيه من قبل، إذا به الآن ينفذ إلى أعماق قلبه.
تتمثل الإشكالية التي يسعى هذا المقال إلى مقاربتها في بيان دور اللغة والمعجم عامة والمجاز والاستعارة خاصة في تحديد أشكال الربح والخسارة في المعاملات التجارية والمالية الواردة في القرآن الكريم وأبعادها النفسية والاجتماعية. ولعل التباعد الجلي بين عالم التجارة والمال بصفته رمز المادية والواقع الحي، وعالم اللغة باعتباره مفتاح التخييل، أن يؤدي إلى توتر مفهومي وتصوري نخصص الأسطر الآتية للكشف أولا بأول عن رسوّه على واقع الانسجام التام. ولا عجب أن اتخاذ القرآن الكريم مجالا للتطبيق سيفع بالتوتر إلى أبعد مدى، لأنه وحي أعظم من شطحات اللغة، وأكبر من مغريات المال رغم أنه قنن استعماله ووزع حظوظ أصحابه ومستحقيه.
وما دام الأمر يتعلق بكتاب الله، فلا مناص من الانطلاق من المجتمع القرشي الذي دارت حياته بين تجارة الصیف إلى الشام، والشتاء إلى الحبشة، فحاز بذلك القدح المعلى في التجارة من جهة، كما لم يكن يقيم الاحتفال إلا لثلاث، منها شاعر يولد في القبيلة، أي للمتمكن من ناصية اللغة والخيال من جهة ثانية. هذان السلاحان كيفا رؤيتهم للعالم ولعلاقاتهم الخاصة والعامة، وحددا مواقع القوة داخل المجتمع تبعا لمدى تملُّك ناصية التجارة وإنشائها، والكلمة وإفشائها. ولما جاء الدين الجديد، كانت البنية المجتمعية مؤطرة بشكل نمطي داخل هذا النسق الصارم الذي يهاب أرباب المال والكلام.
فهل يمكن زعزعة عقيدة المال وقد بَنْيَنت المجتمع على أساسها، وسخرت الشعراء للمنافحة عن مذاهبها؟
لا شك أن الأمر أكبر من زحزحة جبل متمكن راسخ، فكيف استطاع القرآن أن يُبَنْيِن مجتمعا يؤمن بالمال وبسحر الكلمة والخيال؟
هذا هو الإشكال الذي نروم مناقشته في الآتي من الأسطر، على أساس قصْر التحليل على وجه محدود من أوجه ثورة القرآن على عقيدة المجتمع القرشي، وهو ثورة التعبير وسحر البيان المستثمرة لولاء القرشيين للتجارة والمال. بعبارة أدق، فقد تخلقت هذه الثورة من تحدي ركني قوة قريش، جهابذة البيان، وأرباب التجارة والأموال.
ولبيان أسس هذه الثورة وآلياتها، نقتصر على جهاز بياني يضطلع داخل الكلام بأدوار تركيبية تحول المعجم اللغوي إلى صور غاية في البيان والإقناع، ونعني به المجاز والاستعارة. وهذا لعمري قد يشكل وجه الغرابة في معادلة التوفيق بين الطابع الواقعي المادي لثورة القرآن، وبين البعد اللغوي التخييلي في جهاز البيان، فكيف للاستعارة، بل لكل أبواب البلاغة، أن تبيّن ثورة كتاب الله على مجتمع يقدس التجارة والمال، ويهاب الكلمة والسحر الحلال؟
هذا هو جوهر الإشكال الذي نروم مقاربته في هذا المقال.
بداية، لا يمكن الحديث عن استعارات القرآن دونما التعريج على الشريف الرضي (359 – 406 هـ ) باعتباره أول من استقرأ القرآن “على ترتيبه المصحفي، فيتعقب الآيات في السور القرآنية بحسب تسلسلها آية آية، فإذا لمح المجاز وقف عنده وقفة الفاحص الخبير.”[1] هذا الاستقراء الشامل لاستعارات القرآن، لم يكن عرضا في مؤلَّفه (تلخيص البيان عن مجازات القرآن)، بل جاء مستقلا لهذا الغرض وحده. والرجل بهذا لم يكن يفسر كلام الله آية آية حسب ترتيب المصحف كصنيع الطبري والنسفي والقرطبي والبيضاوي وابن كثير وغيرهم، بل كان يتتبع الآي بحثا عن المجاز والاستعارة فيه.
قد يقال: ماذا تروم بعد هذا السبق الفذ، وبعد أن لم يدع غيرُه من القدامى والمحدثون أيا من جوانب هذا الباب الإبداعي إلا أحصوها غوصا خلف استنباط مكوناته وآليات اشتغاله؟
والجواب يتمثل في جوهر الاختلاف بين مقصد كلينا وتصوره لمفهوم الاستعارة والغاية منها. إنها هاهنا ليست مجرد تشبيه حُذف أحد ركنيه كما دأب جل المشار إليهم على التعامل مع ألوانها، وبذلك لم نحصرها في الوظيفة الجمالية أو البيانية التوضيحية. وبما أنها تنقل حقيقة ما وقر في أفهام المتلقي التي بواسطتها يدرك مقاصد الباثّ حتى وإن كان لا يعرفها، فقد تجاوزت الوظيفة المذكورة لتصبح ضرورة، هذا المفهوم الذي تفطن إليه الرماني قديما وتبعه ابن رشيق القيرواني، يجعل منها “عنوان التمكن من اللغة وغرائبها … [و]ضرورة من ضرورات الحياة”.[2] الاستعارة بهذا التصور قد تقوم مقام الحقيقة ما دامت الحقيقة لم تحقق غاية الرسالة وهي الإفهام والمبالغة، وبذلك تغدو وسيلة لنقل عالم مجهول عبر العالم المعل[3]وم، وتسد العجز التصوري لدى المتلقي لتكوين صور ذهنية جديدة بالارتكاز على الصور المعلومة لديه.
بناء على هذا الفهم نرى أن الاستعارة تتعدى حدود المشابهة إلى تحقيق الانسجام بين المتنافر من المعاني والتآلف بين المتباعد من الصور. هكذا تغدو عنصر إبداع فعال بين أنساق تصورية قائمة وأخرى مجهولة عن طريق إسقاط المعلوم لدى المتلقي على المجهول، فتتيح للذهن أن يتمثل المجرد كأنه يراه وذلك عن طريق استحضار التصورات المترابطة لديه وتعميمها على النسق التصوري الذي كان مجهولا قبل الاستعارة. فكل استعارة حسنة كما لاحظ الرماني بحذاقة بالغة “توجب بلاغة بيان لا تنوب منابه الحقيقة، وذلك أنه لو كامن تقوم مقامه الحقيقة كانت أولى به، زلم تجْر الاستعارة”. هذا الرأي المتقدم على زمنه حمله على أن يؤكد أن “كل استعارة فلا بد لها من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى في اللغة”.
وطبعا، لا ينجح بناء الأنساق التصورية في الذهن بفعل التركيب اللغوي وحده، ومنه الاستعارة، بل وبالبنية النفسية والثقافية والصور النمطية الجمعية، ذلك أن “أنساقنا التصورية العادية التي نفكر بها ونعمل على ضوئها هي أساس أنساق استعارية في طبيعتها.”[4] وعليه، فالإنسان يشكل تمثلاته لأشياء محيطه، وللصور الذهنية المرتبطة بها من محيطه ومن تفاعله مع وقع آثارها النفسية عليه، لهذا فإن أي دمج لصور جديدة لا يتم إلا إذا أخذ التمثلات القبلية في الحسبان ذلك أن للمتلقي دورا مباشرا في هذه العمليات بفضل قدرته الفريدة على التقاط الصور الجديدة واستيعابها، فالانغمار في الاستعارة المبتكرة يتطلب عينا لالتقاط المتشابهات كما قال أرسطو في فن الشعر، وما أدراك ما عين مخضرمين بين الجاهلية والإسلام. فما هي الصور المركوزة في ذهن القرشي والتمثلات القبلية المألوفة عنده التي انطلق منها القرآن عبر جهاز البيان المبدع لإرساء صور ذهنية جعلت المجهول لديه معلوما والمجرد حقيقة والبعيد عن محيطه قريبا؟
وأيضاً:
سنقتصر في ما يلي على أبرز تلك الصور وأهمها، مع الإشارة إلى أن الترتيب المقترح الآتي اعتباطي لا يستند إلى تراتبية منهجية محددة نظرا لتداخلها وتشابكها وتكاملها، وهي كالآتي:
حياةٌ ثم موتٌ ثم نَشْرٌ ** حَديثُ خُرافَةٍ يا أمَّ عَمْرِو
وبقول شداد بن الأسود الليثي الكناني راثيا قتلى بدر الكبرى:
أَيوعِدُنَا ابنُ كَبشَةَ أنْ سنَحْيا ** وكَيفَ حياةُ أصْداءٍ وَهامِ
أتَعجزُ أنْ ترُدَّ المَوتَ عَنـي ** وتُحْييني إذا بَلِيتْ عِظامي
مَحَلَّتُهُمْ ذاتُ الإلهِ وَدينُهُمْ ** قَويمٌ فَما يَرْجونَ غَيرَ العَواقِبِ
ومنهم من آمن بفكرة البعث والنشور والقضاء والقدر ومسألة الحـساب والعقاب السماوي والإيمان بأجل محتوم[6].
فإذا كانت هذه أبرز العناصر التي ستشكل قوام الصور الذهنية الجديدة، وإذا كانت جميعها أو جلها غريبة عن تمثل المتلقين وعن فهمهم لأنها مجردة غير مرئية ومجهولة غير معلومة، فكيف ستكتسب قوة كقوة الحقيقة المرئية والمحسوسة حتى ليقول أحد من عاشوا هذه الثورة: إني لأشم رائحة الجنة؟ لن يكون ذلك إلا بقوة الكلمة وسحر البيان وسلطان الاستعارة التي هي ضرورة كما أسلفنا، وليست محصورة في الوظيفة الجمالية وفي الدرجة الصفر من التأثير، ذلك أن الذهن قادر على أن يصور لصاحبه عالما غير مرئي لأنه يبني تصوره له من خلال العالم المعلوم لديه، فيتحول المجهول إلى حقيقة بفعل الاستعارة، وهكذا يدرك بهذا النسق التصويري التصوري مجالا جديدا انطلاقا من نظيره المبَنْين سلفا في النسق التصوري المكتسب. وسنحاول تبيين ذلك فيما يأتي من هذا المقال.
وقبل ذلك، يلزم التنبيه على أن المسألة ليست ميكانيكية بين استعارة عالم مثالي لعالم قائم، وليست تنجز بعصا سحرية ولا بزرّ آلة تحكم، فكل تغيير يتطلب جهدا ووقتا ومعاناة لكنه لا يتحقق إلا على أساس مقومات الثورة أو الدعوة، وهي هنا دعوة الإسلام إلى تغيير عالم بآخر.
ننطلق إذن من مسلمة اعتبار التجارة ركيزة المجتمع، ومحددا أساسا في رسم ميول القوم وسلوكهم ورؤيتهم للعالم. والتجارة لا تسيطر على المجتمع بقوة المال فقط، ولكن على العقول خاصة بما تشكله في العقل الباطن من معادلة بين النعيم والنجاة من الفقر، ثم الحرص على زيادة المكسب. ومن تمكنت التجارة من عقولهم هم أكثر الناس إدراكا للربح والخسارة، وأشدهم ربطا بين السلع وبين كل ما يفضي إلى الربح أو ينجي من الخسارة. وطبعا، فالبيع والشراء هما السبيل إلى النماء أو الكساد، فلا قيمة للسلع دونهما، وقد تحكم قانون المال في البيع والشراء والربح والخسارة في كيان قريش حتى سميت كذلك بسبب هذا القانون، ومن كان كذلك كان أكثر الخلق ربطا بين علاقات الربح والخسارة في الماديات والمجردات على السواء.
وإذا تأملنا القرآن الكريم لم نجد أدنى عناء في استخراج تواتر هذا اللفظ فيه سواء بمعناه الحقيقي أو المجازي.[7] والتجارة المجازية قائمة على الاستعارة، وهي استعارة بنيوية لأنها تقوم على مبدأ المعايشة، أي قدرة الذهن على أن يعيش مجالا غريبا عليه ويتصوره كأنه يعرفه، سواء آمن به أو لا. فما دام حب التجارة متمكنا من قلوب أهل ذاك المجتمع بما هو حب للربح والفلاح، فلا شيء ينفذ إلى تصورهم لركائز الدعوة الجديدة كالربط بين هذا الحب وبين أساس الدعوة وهو الإيمان بالتوحيد. هذا استثمار ناجع لغريزة حب عظيم، حب الدنيا، وربط منطقي بين هذا الحب وبين حب الآخرة مع ما بينهما من تباين وتنافر. قال تعالى في سورة الصف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}. الإيمان إذن هو التجارة المنجية وهو مفتاح الجنان، وإن “وصف التجارة بأنها تنجي من عذاب أليم تجريد للاستعارة لقصد الصراحة بهذه الفائدة لأهميتها، وليس الإنجاء من العذاب من شأن التجارة، فهو من مناسبات المعنى الحقيقي للعمل الصالح”[8].
لقد استطاعت الاستعارة أن تسقط التجارة على الإيمان إسقاطا بديعا لأن “جوهر الاستعارة يكمن في فهم نمط من الأشياء والتعامل معه من خلال نمط آخر”[9]. هذا الإسقاط سيشمل أبرز مقومات التجارة من بيع وشراء وربح وخسارة، وهذه موازنة أخرى بديعة بين قوانين السوق والسلع بصفتها صورا يومية مادية نمطية للدنيا، وبين الآخرة باعتبارها صورة ذهنية غير مرئية. ويشكل مآل السوق وتجارة المعروض فيه من السلع بين الربح والخسارة صورة منطقية أخرى موازية لمآل الراحل إلى الآخرة بين مهتد وضال. ولما كان البيع والشراء أهم مقومات التجارة والسوق، فقد ركز عليه القرآن الكريم كثيرا في ربط العناصر المشتركة بين تجارة الدنيا وتجارة الآخرة. “وجملة هذا الباب أن العبادات كلّها كالتجارات فى أنها طلب للمنافع، فالعبادات طلب لمنافع الآخرة، والتجارات طلب لمنافع الدنيا”[10].
إن مدار العمليات التجارية التي أجراها معارضو دعوة الإسلام يتمحور في خسرانها لأنها قامت على عملية استبدال فاسدة، وقد عُرض ذلك كله في قالب تصويري مجازي دقيق. وإن كنا نجعل هذا البعد محور هذه القراءة، فبعض المفسرين لم يلتفتوا إليه ومع ذلك خلصوا إلى منتهى خسران هذه التجارة، قال النورسي مفسرا قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} “فاعلم أن في تخصیص نفـي الربح – مع أنهـم كمـا قـد خـسروا فقـد أضـاعوا رأس المـال أیـضا ً- إشـارة أن مـن شـأن العاقـل أن لا یقـدم علـى تجــارة لا ربـح فیهــا، فـضلا عمــا فیهــا خــسارة وإضاعة رأس المال.. ثم في إسناد الفعل إلى التجارة مع أن الأصـل (فمـا ربحـوا فـي تجـارتهم) إشـارة إلـى أن تجـارتهم هـذه بجمیـع أجزائهـا وكـل أحوالهـا وقاطبـة وسـائطها لا فائـدة فیهـا لا جزئیـاً ولا كلیـا؛ لا كـبعض التجـارات التـي لا یكـون فـي محـصلها وفـذلكتها ربـح، ولكـن فــي أجزائهــا فوائــد، ولوســائط خــدمتها اســتفادات… أمــا هــذه فــشر محــض وضــرر بحت.”[11]
يقوم استعمال التجارة على سبيل المجاز في الآيات التي تضمنت هذا اللفظ بمعناه المجازي على مبدإ الاستبدال، قال الزمخشري في: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهـدى فمـا ربحـت تجارتهم وما كانوا مهتدين} “فإن قلت: هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجـازا في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة كأنّ ثم مبايعةً على الحقيقة؟ قلت: هـذا مـن الصـنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تُقفّى بأشكال لها وأخوات، إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقا وهو المجاز المرشح”.[12] لكن هذا يثير التساؤل الآتي: لماذا اختار معظم من استقرأنا آراءهم في خسارة هذه التجارة فعل الاستبدال[13] لتفسير اشتراء الضلالة بالهدى ولم يختاروا الاستحباب، مع أن الحق يقول في آية أخرى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار} (إبراهيم 28) ويقول في أخرى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} (النحل 107) ويقول في ثالثة: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت 17)، بعبارة أخرى، ما كان يعجزه أن يصوغ الآية بلفظي الاستبدال ولا الاستحباب رغم قربه من القلب، فلماذا الاشتراء؟
بداية، نشير إلى أن القرآن استعار لفظ الاشتراء للتعبير به عن الاستبدال أو الاختيار في مواطن كثيرة، “فقد ورد فعل (اشترى) على وزن (افتعل) إحـدى وعشرين مرة، فيكون مجموع وروده خمساً وعشرين مرة في ثلاث وعشرين أية من القرآن الكريم” [14]. وهذا المعطى الإحصائي يؤشر على أن الأمر لم يكن عرضا، ولا مجرد لعب لغوي في محور الاختيار، ولكن مندرجا في إطار رسالة دعوية اتخذت من الكلمة منهجا ووسيلة في مجتمع تضطلع فيه الكلمة بسلطة خارقة. وقد شغلت هذه الاستعارات أجيالا من علماء الأمة عبر التاريخ كل من مجال تخصصه بحيث يكاد يستحيل الإحاطة بكل ما ألفوه في ذلك مستقلا أو تبعيا، وهذا يؤكد عمق هذا الجهاز التعبيري التصويري في خطاب قوم طاروا بجناحي التجارة والكلام.
وإذا وضعنا مجموع استعارات القرآن للاشتراء تعبيرا عن الاستبدال فيمكن أن نصنفها إلى الصنفين الآتيين:
تمثل صورة التاجر في هذا الاشتراء مجموع درجات الخسارة لأنه ضل عن اختيار السلعة فراهن رهانا خاسرا بسوء تقديره. يقول تعالى في سورة البقرة: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} ﴿البقرة 16﴾ فطبيعي أيضا أن يشتروا {الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} ﴿البقرة 175﴾ و{الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} ﴿آل عمران 177﴾ بل سيتوجون صفقاتهم بأن يشتروا {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} ﴿البقرة 86﴾ وطبيعي أيضا أنهم {يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيل} ﴿النساء 44﴾، والنتيجة أنهم {ما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} ﴿البقرة 16﴾ وأنهم {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} ﴿آل عمران 177﴾. وطبعا، فإن كان من خصال التاجر الحاذق استهداف السلعة الرابحة، فمن اختار الضلالة واستبدل بها الهدى فهو بميزان الإيمان أعظم الخاسرين. يقول الزمحشري في تفسير{ فما ربحت تجارتهم}: “معناه أن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان: سلامة رأس المال، والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا، لأن رأسمالهم كان هو الهدى، فلم يبق لهم مع الضلالة، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة، لم يوصفوا بإصابة الربح، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأغراض الدنيوية، لأن الضال خاسر ضامر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله: قد ربح، وما كانوا مهتدين لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيهم ويخسر.”[15]
ولما كان لكل سلعة ثمن، فلم يغب عن القرآن تحديد أثمان الاشتراء. ومجموع ورود (ثمن أو الثمن) هو أحد عشر مرة، كلها موصوفة عدا واحدة في (المائدة)، ومن هذا العدد تسع مرات ورد فيها الثمن بمعناه المجازي، وكلها تصف الثمن، بالقليل. ولعل نسبة هذا التواتر، وتلازم نعت الثمن بالقليل أن تلفت انتباه التجار الذين يعرفون متى يقترون في دفع الثمن إلى أن سلعة الله مهما دفعوا مقابلها فهو قليل، فلا وصف يعادلها إلا القليل، سواء كانت بصيغة الإخبار: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} (البقرة 174) { ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} ( البقرة 79) { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} ( آل عمران 77)
{وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران 187)
{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} ﴿التوبة 9﴾
أو بصيغة النفي:
{لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} ﴿المائدة﴾
أو النهي: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} ﴿البقرة 41﴾
{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} ﴿المائدة 44﴾
{وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} ﴿النحل 95﴾.[16]
يظهر أن الثمن كلما ذكر في القرآن في حق البشر تُرك بلا نعت أو تحديد عدا ثمن بيع يوسف، وكلما ذكر في حق عهد الله أو آياته وُصف بالقليل على الإطلاق، ليعلم المتلقي أن سلعة الله لا تقدر بثمن.
إن متلقي هذه الآيات ليعلم أن الأثمان لا تُشترى أبدا، بل يُشترى بها، وهذا هو وجه الاستعارة في هذه الآيات، لأن التعبير عن العوض الذي هو السلعة المقتناة باسم الثمن المبذول يجري على الاستعارة لوجه الشبه بين ما اشتروه وبين حقارته، وتلك صفقة خاسرة لا يدركها إلا التاجر الذي أساء الاستبدال والاختيار. وهكذا يستمر فعل الاشتراء في ضخ المزيد من الاستعارات التي تؤسس مجتمعة صورة الخسارة في استبدال الضلالة بالهدى وما ترتب عنها من خسارات، فاستعارة لفظ الشراء لمناسبته استبدال شيء بشيء، وقد استعير لاستبدالهم آيات الله بأهوائهم كما استعير من قبل للتعبير عن استبدال الإيمان بالكفر والآخرة بالدنيا إلخ. ذلك أن “التعبير الاستعاري (الاشتراء) أخرج الضلالة والهدى، وهما شيئان معنويان بصورة محسة وكأنهما شيئان تراهما العين، يقع عليهما من ضروب التجارة من بيع وشراء، وفي ذلك تقريب لبيان حال هذه التجارة الخاسرة. وقد أكد سياق الآية الكريمة أن ثمة مبايعة حقيقية وقعت، إذ لما ذكر سبحانه (اشتروا) دلالة على الاختيار والاستبدال، أردف ذلك بذكر التجارة والربح … وهذا النوع من المجاز هو الذي سماه الزمخشري المجاز المرشح.”[17]
وذِكر الأثمان يستوجب الحديث عن المال، وقد وردت هذه اللفظة ستا وعشرين مرة في كتاب الله، منها سبعا على المجاز لا الحقيقة. ومن مميزات استعمالها أنها وردت كلها بالجمع، كما اقترنت بفعل الأكل، فشُبّهت بالطعام، فكانت كلها مكنية لحذف المشبه به، وقامت كلها على الباطل والإثم والظلم والحوب، وما كان كذلك فهو أكل للنار. إن هذه الصور بهذا الحجم النصي والدلالي تبيان لوجه آخر من أوجه الضلالة في استبدال القرآن بالأهواء، وبذلك فهي تلتقي بشكل بديع بجزاء من {يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلَّا ٱلنَّارَ}. إن تعاضد مجموع هذه الصور والجزاءات في وصف حقيقة ضلالة المكذبين لَيشكل ربطا عضويا بواسطة اللغة والاستعارة بين ثنائية الخير والشر والضلالة والهدى، ويقرب الصور البعيدة من المتلقي بواسطة المجاز، فيوظف ألفاظا في غير ما وضعت له على سبيل التوسع من أهل اللغة، ثقة من القائل بفهم السامع، وللعرب كما يقول الجاحظ إقدام على الكلام ثقة بفهم أصحابهم عنهم.[18]
لقد شكل حصر إسناد فعل (الأكل) في (المال) زيادة بيان لصورة الضلالة بعامة ولهذا الوجه المادي منها والمتمثل في الأكل. وقد استعير الأكل وحده لأنه فعل غريزي لدى الإنسان، وما لم يُلجم بضوابط فإنه باب كل مهلكة، وسيصير عُباد غرائزهم من الضالين {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} ﴿محمد 12﴾، فهؤلاء {إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} «وهذه استعارة ، وقد مضى الكلام على نظيرها فى (البقرة). والمعنى أنهم لما أكلوا المال المؤدي إلى عذاب النار، شبّهوا من هذا الوجه بالآكلين من النار»[19].
ولعل حرص الكتاب العزيز على بنينة سيرورة الترابط المنطقي بين اشتراء الضلالة والإقدام على كل منكر ومنه أكل المال بالباطل، يفسر تواتر لفظ (الأكل) بتلويناته الاشتقاقية في القرآن 109 مرة، حظيت تشريعات حرمته وحليته منها بقسط ملحوظ. وقد شكل الفعل المضارع الذي يفيد استمرار الأكل بالباطل نسبة عالية ب49 ترددا، ويكاد يقترب منه فعل الأمر الذي يدعو إلى نقيض ذاك الأكل ب32 تواترا. ويعتبر هذا الموضوع من الإرهاصات البيانية لدى رائد الجيل المؤسس للبحث في بيان القرآن، وهو الجاحظ إذ يقول: «باب آخر فى المجاز والتشبيه بالأكل، وهو قول اللّه عز وجل: {ِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً} وقوله تعالى عز اسمه: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وقد يقال لهم ذلك، وإن شربوا بتلك الأموال الأنبذة، ولبسوا الحلل، وركبوا الدواب، ولم ينفقوا منها درهما واحدا فى سبيل الأكل، وقد قال اللّه عز وجل: {إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً} وهذا مجاز آخر»[20]. وفي سورة المرسلات وصف يختصر مآل الأكل لدى من اشتروا الضلالة بالهدى في قوله تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} ﴿المرسلات 46 ﴾.
إن للقرآن الكريم بحق أسلوبا تعبيريا معجزا في رصف المعجم والتركيب والصور لخدمة المعاني، ثم رصف هذه لتحقيق مقاصد دلالية ونفسية محددة، وبناء نسق فكري وتصوري متماسك ومنسجم يؤسس صرح الدعوة إلى الخير، ويصف تراتبية الشر وأشكاله وتعالقه. وشتان ما بين تلقي هذا الخطاب الآن وقد وعيناه إلى حد ما وتمثلنا أبرز مبادئه، وبين تلقيه في ذاك الزمن. فكل كلمة وكل مفهوم وكل صورة إلا وتشكل منحى جديدا في إعداد مجتمع كامل لما بعد الوثنية ثم لما بعد الموت. هذه الرسالة عرضت على المتلقين بواسطة اللغة في عز السليقة العربية وقمة نقائها، فكانت هذه اللغة بداية الإعجاز والتعجيز لما تفردت به من خصائص معجزة في التركيب بمفهومه العام والمقاصد والصور والدلالات، ولهذا أقبل عليه جهابذة علماء الأمة إبرازا لمشكل تأويله وغريبه ومجازه وإعجازه وإعرابه إلى يومنا هذا.
ونختم سلسلة هذه الألفاظ التجارية التي أجراها القرآن مجرى المجاز لمقاصد تواصلية وإقناعية بلفظ يحتضن كافة عناصر معجم هذه المعاملات واشتقاقاتها، لفظ ساق هذا اللفيف صوب لحظة حاسمة في حياة كل من دخلوا هذه السوق للتجارة وسيدخلونها، وتحديدا أولئك الذين اشتروا الخسران بالربح على حد التعبير القرآني المعجز. ولا نستبعد أن يكون هذا اللفظ مارس تأثيرا مهولا على من تلقاه أول مرة، ثم على كل من استطاع ويستطيع الربط بين التصوير المجازي وأبعاده التأثيرية التي تكاد تتفوق على الحقيقة والواقع. ولعل تجسيد هذا اللفظ لصور الاستبدال التجاري الخاسر وما تعتوره من دلالات نفسية واجتماعية هو ما حذا بأهل اللغة والفقه أن يسمّوا به سورة من سور القرآن، عنينا بها سورة التغابن. الغَبن تقديم ثمن دون قيمة مَبيع مثلِه، لذا يضمن خسارة البائع، ولذلك أطلِق “على مطلق الخسران … فليست مادة التغابن في قوله {يوم التغابن} مستعملة في حقيقتها إذ لا تعارض حتى يكون فيه غبن، فهو مستعمل في معنى الخسران على وجه المجاز المرسل … [ ففي الآية] مجاز وتشبيه وتمثيل، فالمجاز في مادة الغبن، والتمثيل في صيغة التغابن، وهو تشبيه مركب بمنزلة التشبيه البليغ إذ التقدير: ذلك يوم مثل التغابن.”[21] سردنا هذا الشاهد على طوله لتبرير انتماء هذا اللفظ لهذا المقام، وللتدليل على دور المجاز في وصف الأمور الغيبية التي لا تدركها العيون وصفا قد يجعلها تضاهي الحقيقة وتقوم مقامها، ولبيان كيف استطاع هذا الكتاب أن يصور كافة تعاملات أهل الضلال تصويرا مناسبا لما يعلمون وما يحبون وما يتقنون. التغابن إذن مصدر غابَنَ، وهو من باب المفاعلة، وهي تعني حصول فعل الغبن من جانبين أو أكثر، ولعلهما المقصودان بقول الشريف الرضي: ” وقوله سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ} فذكر التغابن هاهنا مجاز، والمراد به – واللّه أعلم – تشبيه المؤمنين والكافرين بالمتعاقدين والمتبايعين، فكأن المؤمنين ابتاعوا دار الثواب، وكأنّ الكافرين اعتاضوا منها دار العقاب، فتفاوتوا فى الصّفقة، وتغابنوا فى البيعة، فكان الربح مع المؤمنين، والخسران مع الكافرين.
المادة المعجمية للاشتراء هي (شرى) “ولها في القرآن منهج وقانون”[22]، وقد سبق أن حددنا اشتراء السلب في عملية استبدال السلعة الخاسرة (الضلالة) بالرابحة (الهدى) على سبيل المجاز، قال الرازي: ” واعلم أن اشتراء الضلالة بالهدى اختيارهـا عليـه واسـتبدالها به”،[23] ونذهب هنا إلى أن هناك شراء ثانيا يتميز بالإيجاب ويختلف جذريا عن سالفه، ولم نراع فيه الصيغة الصرفية لأننا نستهدف كيفية اشتغال اللغة والدلالة في تشكيل تمثلات جديدة من خلال لوحات مجازية تفضي إلى تكوين بنية ذهنية تخالف السائد وتستبدله.
ومعلوم لدى أهل اللغة والاقتصاد أن الشراء عملية إرادية تقتضي تقديم ثمن معلوم لامتلاك شيء محبوب، وبعبارة الفقهاء: هو إدخال ذات في الملك بعِوض، أو تمَلك المال بالمال، أما البيع فهو مقابلة شيء بشيء؛ كمقابلة السلعة بالسلعة أو بالنقد، وهو إخراج ذات عن الملك بعِوض. على أن اللغة تطلق كلا من البيع والشراء على معنى الآخر، ولهذا لم نخض في البعد المعجمي مركزين على الدلالي. ومن جهة أخرى، قصرنا الحقل الدلالي للاشتراء هنا على عناصر العائلة المعجمية المحققة لفعل الاستبدال في بعده الإيجابي، أي المتمثل في البيع لا الشراء، ولم نركز، مع ذلك، على لفظ البيع بعينه لأن مجموع ظهوراته في القرآن لم ترد إلا بالمعنى المباشر ما عدا ثلاثة، إحداها تندرج في سياق اشتراء الإيجاب كما سنرى.[24]
وفي سياق تمثيل اختيارات العباد بالسوق الذي تقوم فيه المتاجرة على مبدإ البيع والشراء بما هما استبدال لسلعة بأخرى، سيقدم القرآن الكريم نوعا مختلفا من هذه التجارة وسمناه باشتراء الإيجاب توصيفا له باستبدال سديد صائب. ولعل من لطائف هذا الكتاب المعجز أن كل أمثلة هذا الاشتراء تحمل معنى البيع،[25] فتختلف عن سابقاتها التي تفيد الشراء كما تقدم، وهذا وجه آخر من وجوه دقة العبارة وإصابتها المراد. ولعلنا نفسر هذا الاختلاف الدلالي مع الاشتراك اللفظي في الحفاظ على المادة اللغوية نفسها (شرى) في كلا المحورين حتى تكون أداة إضافية في بناء الدلالة، وتسهم بدورها في تنبيه السامع إلى البون بين الشراءين رغم الاشتراك اللفظي، وربما لأن الخلفية الدلالية للفعل تحيل الذهن مباشرة على رغبة المشتري في المشترى وما يستوجبه ذلك من شغف يدعو إلى البذل لأن “الشراء إنما يكون في ما يحبه مشتريه” كما قال القرطبي.
عمليا، يتألف هذا المحور من خمس آيات ورد فيها الشراء على وجهين: شراء بمعنى البيع في أربع منها، وبمعنى الاشتراء في واحدة، كما أن منها ما يساق في مقام الإيجاب لأنه يمثل حال سداد البائع وفلاح بيعه، ومنها ما يصنف ضمن البيع الخاسر، ومع ذلك أدرجناه ها هنا بناء على المادة الصرفية وعلى تضمنه معنى البيع ليس إلا، إذ لا مانع من إلحاقه بالقسم السابق.
يقول تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَة} ﴿النساء 74﴾، ويقول عز من قائل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّه} ﴿البقرة 207﴾. يقف هذا الصنف من التجار على النقيض ممن تقدم ذكرهم، فإن كان أولئك يشترون فهؤلاء يبيعون. ولعل إيراد فعل دال على البيع عبر المادة الصوتية للشراء، فيه تلويح بكونهم أيضا مشترين، وهذا المشترى في كلا الآيتين هو لما عند الله ببيع أغلى ما يُملك وهو النفس، بل وبالدنيا بأكملها.
تضطلع الدلالة في الصورتين معا بتسليط الضوء على جانب آخر من هذه التجارة وسوقها وسلعها وأثمانها، ولعل تقلص هذا الجانب مقارنة بمجموع ما تضمَّنَ صور التجارة الخاسرة قد يكون الوجه الخفي لبطء انتشار الدعوة وحجم المقاومة التي لقيتها بين إقبال فئة قليلة وإحجام غالبية جاءت المعطيات النصية تعبيرا خفيا وغير مباشر عنها. وربما يعزز هذا الزعم أن المد الفعلي للغالبية على مستوى الواقع قفز إلى المستوى النصي لما اجتمع المعنيان معا (البيع والشراء) في آية واحدة، فكأنما جاء فعل الاشتراء الدال على الاقتناء ليزاحم الحيز المعجمي الواصف لفعل الشراء الدال على البيع، وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} ﴿البقرة 102﴾، قال الشريف الرضي: «هذه استعارة، لأن بيع نفوسهم على الحقيقة لا يتأتى لهم، والمراد به – واللّه أعلم – أنهم لما أوبقوا أنفسهم بتعلم السحر، واستحقوا العقاب على ما في ذلك من عظيم الوزر، كانوا كأنهم قد رضوا بالسّحر ثمنا لنفوسهم، إذ عرّضوها بعمله للهلاك وأوبقوها لدايم العقاب »[26].
ومن المشروع أن تتساءل عن تقديم الآيات خارج سياق نزولها، وهذا إجراء منهجي مقصده أن ينظر إليها في كليتها وشمولها ما دامت لبنات متراصة تؤسس صرح دعوة متماسكة منسجمة حتى وإن تباعدت المناسبات واختلف المعنيون بالرسالة. نعم، قد يكون استحضار المناسبات دأب المفسر ومن على نهجه، ولكن مقصد هذه المقاربة أن ترصد من خلال اللغة، آليات تغيير تمثلات ذاك المجتمع وتصوراته برؤية أخرى للعالم تستند إلى تعاليم مدبر الكون في تحديد مسالك الاختيار بين عالمين متضادين كانت التجارة، بصفتها أحب الأمور إلى ذاك المجتمع وأقدرها على استيعاب التعاليم، وسيلة ناجعة لبيان الحدود بين الاختيارات والمآلات. تلك ثوابت، أعتقد أن الخالق أراد لها أن تظل، عبر آيات كتابه، قوانين تسري على كل زمن ومكان، ولم يحصرها في أقوام بعينهم.
وداخل هذه المجموعة التي تشترك مع سابقتها في الجذر اللغوي (شرى) وتنماز عنها بالحمولة الدلالية إذ تعني البيع لا الشراء، تطالعنا آية أخرى تتضمن فعل الاشتراء في صورته الصرفية المطابقة لاشتراء فئة الضلالة، لكن بمعنى البيع هذه المرة. وفي هذا التطابق العجمي الصرفي تلويح لطيف إلى التشارك التام في الضلالة وإن اختلف المعنى. ولعل هذا العمق والتنوع يحث على الكشف عن أسرار ترفد الدلالات عبر تعدد الصيغ وسعة المعجم ورحابته. ولولا ذلك لسارعنا إلى تصنيف فعلي الآيتين الآتيتين ضمن المحور السابق، ولكانتا نشازا فيها، وهذا قد يؤكد زعم اختيار الرؤية الاشتمالية إلى آي القرآن بعيدا عن تقييدها وخصرها في نطاق ضيق. يقول تعالى واصفا شراء هذه الفئة الضالة: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ﴿البقرة 90﴾ الاشتراء هنا بمعني البيع، ولا شيء يمنع من استعماله بدلا من (اشتروا) إلا لحكمة يعلمها الله وإنما حمنا حول ما تراءى لنا منها أعلاه لملامسة بعض ما تحويه من أسرار. ولعل البون شاسع بين فعل (اشتروا) وبين (باعوا) حين يسمعه المقصود بالخطاب سواء في تلك اللحظة أو بعدها من حيث التفكر في القول وسرعة استيعابه.
ويُختم هذا المحور بالاستعمال الوحيد الذي ورد فيه فعل الاشتراء بالإيجاب بمعناه المجازي، وبما أنه لا شيء متروك في القرآن للصدفة، فيستحيل ألا يكون هذا التفرد من الأسرار التي ينبغي الكشف عنها. يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة} ﴿التوبة 111﴾ “وهذه استعارة، وذلك أنه سبحانه لما أمرهم ببذل نفوسهم وأموالهم فى الجهاد عن دينه، والمنافحة عن رسوله عليه السلام، وضمن لهم على ذلك الخلود فى النعيم، والأمان من الجحيم، كانت نفوسهم وأموالهم بمنزلة العروض المبيعة، وكانت الأعواض المضمونة عنها بمنزلة الأثمان المنقودة، وكانت الصفقة رابحة لزيادة الأثمان على السلع، وإضعاف الأعواض على القيم”.[27] ولعل هذه الآية من الآيات التي تحث على بذل النفس في سبيل الله بغض النظر عن المناسبة التي نزلت فيها.
جاء في الميزان في تفسير هذه الآية أن الله أجرى الاشتراء “في قالب التمثيل فصور ذلك بيعا، وجعل نفـسه مشتريا والمؤمنين بائعين وأنفسهم وأموالهم سلعة ومبيعا والجنة ثمنا، والتوراة والإنجيل والقرآن سندا للمبا يعة، وهـو مـن لطيف التمثيل”.[28] هكذا بكل تأكيد فهموا الرسالة، وفي السيرة النبوية أمثلة حية على استرخاص الأرواح، وهي الأثمان، لبلوغ المرام، خصوصا والحق يضمن الصفقة بنفسه ويعاهدهم عليها{وَمَن أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}. فهذا هو الموضع الوحيد الذي ورد فيه الاشتراء بمعناه الإيجابي دالا على ربح التجارة والتاجر، وهو الموضع نفسه الذي سيُذكر فيه البيع مرتين متتاليتين بمعناه المجازي{ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } ﴿التوبة111﴾، فقد أجرى الله المعاهدة بينه وبينهم على ما يتعاملون به ويلمسونه حقيقة في حياتهم اليومية، فيكون المجاز بذلك مَعبَرا نحو الحقيقة وبيانا للصورة المتعارف عليها.[29]
وكما أن التجارة والاشتراء الخاسرين استدعيا في المحور الأول المال وأكله والأثمان وقلتها، فتجارة هذا المحور ستستدعي بدورها مكونا هاما من مكونات التجارة، عنينا به القرض. أما إدراجنا إياه في هذا المحور فلكونه استعارة تصريحية تبعية لأن القرض لم يستعمل في غير ما وضع له بل استعير للدلالة على الإنفاق في أفق الضمانات الإلهية المتقدمة لتأكيد أن المنفِق لن يضيع له ما أنفق بل سيضاعف له ذلك أضعافا كثيرة، قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَة} (البقرة 245).
ولا يخفى أن قريشا بسبب قوتها المالية والدينية، لموقع مكة فيها، كانت تمارس أشكالا من الربا تصل إلى حد أخذ الزوجة أو الأخت أو الابنة في حال العجز عن سداد الدين فتشتغل في المواخير إلى حين سداده بعملها هناك، ثم إن المقرِض بشرط الربا يطلب من المقترض كفيلا لضمان إعادة المال سالما، وقد يكون ولده أحيانا. ويكفي هذا المثال لأخذ صورة عن خساسة الربا وعواقب القروض[30] التي كانت متفشية قبل أن يحاربها الإسلام ويصورها في القرآن والسنة تصويرا مرعبا.
وعلى الرغم من العاقبة القاسية على المقترض في الدنيا ثم على المقرِض في الآخرة، فقد استعمل القرآن لفظ القرض ست مرات في خمس آيات مدنية كلها. ومعلوم أن القرض، ومعناه قضم الشيء بالناب، أعظم درجة من الصدقة، رغم أنها بالتطوع، وقد تكون قليلة جدا، ولا نية في استردادها، لكن أثر القرض أكبر في النفس للتعلق باسترجاعه ولانتقاص رأس المال منه، ولهذا استعمله القرآن الكريم ولفهم المتلقين لمعناه فهما يقينيا قائما على الممارسة. وطبعا، فالله غني عن قرض كل عباده سبحانه، فالكلام على سبيل المجاز للترغيب.
ولعل أول ما يثير الانتباه في تلك الآيات أن فعل الإقراض[31] يترجح فيها بين الأزمنة الثلاثة تبعا لمناسبة كل آية، وهذا قد يؤوّل بحاجة الإنسان إلى هذا النوع من القرض في كل زمان، والمعتقد عندي أن هذا الفعل منظورا إليه ضمن المنظومة المنهجية المعتمدة في هذه القراءة، والتي تتجاوز تقييده بلحظة النزول، ينفتح على الزمان ما دام قائما، ومن ثم فكل شكل من أشكال الإنفاق في سبيل الله هو قرض بهذا المفهوم.
كذلك تشترك جميع أفعال تلك الآيات في اشتقاق المصدر منها (يقرض الله قرضا)، وذلك يفيد تكرار مادة صوتية محددة لغاية دلالية، لأن زيادة المبنى زيادة للمعنى، إضافة إلى أن كل تلك المصادر نصبت على المفعولية المطلقة التي من معانيها التأكيد وبيان نوع الفعل، وقد جاء الحسن وصفا مطلقا فيها جميعا. ووُصف القرض بالحسن في ضوء هذه الرؤية الشمولية لا لتمييز من الربا الذي كان سائدا في المجتمع كما أسلفنا، ولكن لغايات أوسع تشمل الطواعية والرضا ثم حلِّية المال، ولذلك لم يسند القرض إلى غير الله على عكس الصدقة، وهذا دليل عدم حصره في المعاملات المالية حتى وإن كان من مصطلحاتها، فجَمع هكذا بين كونه من العبادات ومن المعاملات، وتميز بأن أجره أضعاف كثيرة على عكس الصدقة.
خاتمة
نختم هذه القراءة المتواضعة بعرض أبرز النتائج التي انتهت إليها:
هذا ما بدا لنا مما
استطاع الفهم أن يلامسه من معاني أعظم كلام معجز على الأرض، مع أن البضاعة في هذا
المضمار مزجاة، وهذا جهد المقل رغم النية وحسن الظن والإقبال، لذا فما كان من
توفيق فمن الكريم المتعال، وما كان من تقصير فمن النفس وما تعيشه بهذه الظروف من
أهوال، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[1]. مجاز القرآن خصائصه الفنية وبلاغته العربية، محمد حسين علي الصغير، دار المؤرخ العربي، ط 1، ص 29.
[2]. د. عبد الإله سليم، بنيات المشابهة في اللغة العربية، دار توبقال للنشر- الدار البيضاء، 2001، ص 61.
[3]. ثلاث رسائل في عجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمد خلف الله ود. محمد زغلول سلام، دار المعارف، مصر، ط 3، ص 67.
[4]. جورج لايكوف ومارك جونسن: الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة عبد المجيد جحفة، ط 1، دار توبقال، 1996، ص
[5]. للمزيد من التوسع، يراجع الشعراء الحنفاء، دار المعارف، القـاهرة، الطبعة 1، ص 175، وإن كنت أنذر بالكثير من الريبة إلى هذه الفئة من الشعراء، وإلى عقيدة بعضهم، وإلى نسبة ما قاله من أسلم منهم كأمية بن أبي الصلت ولبيد مثلا.
[6]. كما ذهب إلى ذلك علي سليمان في الشعر الجاهلي وأثره في تغيير الواقع (قراءة في اتجاهات الشعر المعارض)، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2000م، ص 156-157. وإن كان ما يرد ما ذهب إليه الباحث قوله تعالى: {وما يهلكنا إلا الدهر} فهو الاعتقاد السائد لدى الغالبية، والشواذ تحتاج إلى مزيد تمحيص.
[7]. ورد لفظ التجارة تسع مرات، ستا منها بمعناها الحقيقي.
[8]. تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، ج 28، ص 194.
[9]. الاستعارة القرآنية في ضوء النظرية العرفانية: النموذج الشبكي، البنية التصورية، النظرية العرفانية، د. عطية سليمان أحمد، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، القاهرة، عام 2014، ص 134.
[10]. المرجع السابق، ص 149.
[11]– إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، بدیع الزمان سعید النورسي، تحقیق إحسان قاسم الصالحي، تقدیم د. محسن عبد الحمید، دار سوزلر للنشر، ط 3، 2002، ج 1، ص 113.
[12]. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، مكتبة العبيكان، ط 1، 1998، ج 1، ص 187.
[13]. مع أن فعل (بدل) ومشتقاته ورد أكثر من عشرين مرة في القرآن. يقول عايد محمد عبد الله: “وأعتقد أن الاستحباب أقرب إلى معنى الآية، لأن الحب يعني المداومة والمراجعة، لذلك عبر عنه تعالى بقوله: {فما ربحت تجارتهم}، لأن التجارة تعني مداومة على البيع والشراء والعمل المـستمر، خلاف الاستبدال والاختيار الذي قد يكون آنيا أو في مدة قصيرة، فهو انتقال مباشرة من الهدى إلى الضلالة وهذا لا يحدث إلا بعد تقليب الأمور واجتراح السيئات وهي عملية بطيئة. دلالة فعلي البيع والشراء في القرآن الكريم، عايد محمد عبد الله، الناشر مجلة مركز دراسات الكوفة، 2008، ص 9.
[14]. المرجع نفسه، “وورد اسم البيع في سبعة مواضع في ست آيات من القرآن ولم يرد فعل البيع على أي وزن آخر فـي القرآن الكريم. وورد فعل الشراء (شرى) على وزن (فعل) أربع مرات، وحسب هذا يكون مجموع ورود فعلي البيع والشراء في القرآن الكريم اثنتين وثلاثين مرة فـي سبع وعشرين آية. وإذا زدنا مواضع ذكر اسم البيع؛ يكون المجموع تسعا وثلاثين مرة في إحدى وثلاثين آية … ومن هذا الإحصاء يتبين سعة استعمال الفعلين في القـرآن الكـريم مما يدل على الاهتمام بالمعاني التي خرجا لها”، ص5.
[15]. المصدر نفسه، ج 1، ص 190.
[16]. انظر تفصيل الجماعات الأربع التي صدر في حقها وصف الثمن بالقليل (التي قامت به، والتي لا تزال تقوم به، والتي لا تفعله، والتي تُنهى عن فعله) في ” دلالة فعلي البيع والشراء في القرآن الكريم”، مرجع سابق، ص 11.
[17]. الاستعارة في القرآن الكريم أنماطها ودلالاتها البلاغية، د. أحمد فتحي رمضان الحياني، دار غيداء للنشر والتوزيع، 2015، ص 72.
[18]. للمزيد من التوسع، ينظر: الاتجاه العقلي في التفسير دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، لبنان، 1998، ص 112.
[19]. تلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، دون تاريخ ج 2، ص 110.
[20]. الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون. ج 5 ص 25.
[21]. تفسير التحرير والتنوير، مصدر متقدم، ص 276 – 277.
[22]. خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية، عبد العظيم إبراهيم محمد المعطني، مكتبة وهبة، ط 1، 1992. سيعقد المؤلف رحمه الله الفصل الثاني من دراسته للمجاز في القرآن الكريم، ومنه الاشتراء، وسيستعرض جميع الحالات التي ورد فيها سواء بمعناه الحقيقي أو المجازي، وسيستنبط قانون الفعل إذا خلا من تاء الافتعال فيدل على البيع، ووإذا لم تحل منها كانت بمعنى الشراء، ج 2، 328.
[23]. قال أبو إسحق: ليس هنا شراء ولا بيع ولكن رغبتهم فيه بتمسكهم به كرغبة المُشتري بماله ما يرغب فيه، والعرب تقول لكل من ترك شيئا وتمسّك بغيره: قد اشتراه.
[24]. والأخريان كما في بعض كتب التفسير قوله تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة}، وقوله تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال} (انظر التفسير الكبيرمثلا، ج 6، ص175).
[25]. باستثناء واحدة هي التي أسندها الحق إلى نفسه إسناد تشريف وتعظيم كما سنرى.
[26]. تلخيص البيان، مصدر سابق، ج 2، ص 116.
[27]. تلخيص البيان، مصدر متقدم، ج 2، ص 116، وقال الزمخشري في الكشاف: “لا يجوز أن يشتري االله شيئا في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك”.
[28]. الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، منشورات دار الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط 1، 1998، 9/395.
[29]. ومثل هذا كثير في السيرة، منه ما قاله أبو هريرة أن عثمان اشترى الجنة مرتين من النبي صلى الله عليه وسلم حين حفر بئر رومة، وحين جهز جيش العسرة، المستدرك للحاكم، ج 3، ص 107.
[30]. حدد ابن خلدون في مقدمته أنواع القروض عند العرب، فقد كانت تقع إما على مال نقدي كالمال والذهب والفضة، أو مال عينيّ كالقمح والشعير، أو مال نامٍ كالحيوان، المقدمة، المطبعة الأزهرية، 1930، ص 630.
[31]. (يُقرضُ، البقرة 245) (وأقرضتم، المائدة 5) (يُقرضُ، الحديد 11) (وأقرضوا، الحديد 18) (إن تقرضوا، التغابن 17) (وأقرَضوا، المزمل 20).
التعليقات