بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة والسلام على من بعثه الله هدى للعالمين محمد بن عبد الله الرسول الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد،
فهذه وقفة تأملية في موضوع الشبهة ومدى علاقتها بمرض القلب الذي يتشربها، وذلك عبر دراسة بعض نصوص القرآن والسنة وبعض حوادث السيرة المطهرة و وغيرها من النوازل مع محاولة استنباط ما في كل ذلك من العبر، لعلنا نخلص إلى فهم أعمق لطرق تأثير أمراض القلوب على أمراض البصيرة، ثم نختم المقال بذكر بعض المعالم والمسالك التي لعلها تعين على الوقاية في هذا الباب من الزيغ والزلل.
فلنستهل هذا المقال بذكر بعض التساؤلات الرئيسة، هل من اعترضته شبهة من الشبه فتشربها قلبه وآمن بها حتى ظن انها الحق ثم عمل بموجبها يكون معذورا أم لا، وكيف لا يكون معذورا وهو يظن أنه على الحق؟ هل هناك من علامات تعيننا على التنبه لكوننا على غير الجادة في باب من الأبواب؟
فلنرجئ الجواب ولنشرع في دراسة النصوص والوقائع كما وعدنا.
حادثة الرماة يوم أحد
لقد أوكل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة أن يحموا ظهور المسلمين يوم أحد وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يرسل إليهم، وإن رأوا الطير تخطف المسلمين، وقال أيضا ‘وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم’، فما كان منهم حين رأوا الدائرة على الكفار أول اليوم إلا أن سارعوا إلى ساحة المعركة تاركين بذلك مواقعهم ومخالفين بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فعلهم هذا من أهم أسباب الهزيمة التي لحقت المسلمين يومئذ واستشهاد من استشهد منهم.
ما يهمنا هنا هو الوقوف على ما جرى لهؤلاء الرماة من تأويل، وكيف عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الواضح.
لما رأى أصحاب ابن جبير ظهور المسلمين على الكفار تنادوا ‘الغنيمة الغنيمة، ما تنظرون’، وفي بعض النصوص أنهم ‘ظنوا أن ليس للمشركين رجعة’ بعد هزيمتهم، فقد يقال في حقهم بناء على قولهم السالف أنهم ظنوا أن المسلمين قد انتصروا وأن المعركة قد انتهت وحسمت وان لا فائدة من بقائهم في أماكنهم بعد ذلك، وقد يقال أنهم رأوا أن مصلحة اقتسام الغنيمة لا معارض لها إلا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق بعدم البروح حتى يرسل إليهم، فلعلهم قيدوه بكونه حال كون المعركة قائمة أما وقد انتهت فالأمر لم يعد له محل،
وقد أخبرنا الله عن الباعث الحقيقي لفعلهم ذلك، وهو حب المال والغنيمة، فقد قال عز وجل في محكم كتابه، ‘ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة’، ففي الآية أن سبب المعصية والفشل هو إرادة الدنيا،
لكن كيف أثرت هذه الإرادة عليهم، الجواب هو أنها جعلتهم يستسيغون تأويل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الواضح الجلي، ثم جعلتهم يغضون الطرف عن الأمر الواضح ويقنعون أنفسهم بصحة تصرفهم حيث استولى عليهم الظن أن المعركة انتهت، ثم لعلهم ظنوا أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مقيدا بكونها قائمة، أم أنه لم يعد للأمر معنى وقد انتهت المعركة وحسمت القضية، الحصيلة انهم قد مالوا إلى هذا التأويل وارتضوه حتى إنهم لم يلتفتوا إلى تذكير عبد الله بن جبير الذي قال لهم ‘أنسيتم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم’.
إنه فعل هذا المرض الخفي وهو حب الدنيا الذي قد عمل عمله و ظهرت أعراضه في ذلك الموقف الحاسم الذي كلف المسلمين ما كلف كما هو معلوم، مع الإشارة أن هؤلاء لم يكونوا منافقين بل مؤمنين من الصحابة الكرام بدليل أن الله قد عفا عنهم وهو لا يعفو عن المنافقين، و بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبرهم شهداء، لكن العبرة هنا أن الداء الخفي قد يعمل عمله فيجعل صاحبه يستسيغ الشبهة التي لولا ذلك الداء لما استساغها، وقد قال تعالى ‘إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم’.
فليقارن أحدنا ما وقع لهم من تأويل لاجتناب الإذعان للأمر لما عارضه ما عارضه من حب المال والمغنم، وكيف زين لهم فعلهم ذاك، بفعل الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي وفى، حين رأى في المنام ما رأى، فما تأول ولا تردد رغم كون الأمر ليس صريحا، ورغم كون القضية متعلقة بالتضحية بابنه البكر الوحيد الذي طالما انتظره، فجاءه بعد أن شاخ وكاد ييأس من مجيئه، حتى إذا كبر وبلغ السعي جاءت الرؤيا بذبحه، فوالله إن هذا لهو البلاء المبين،
فهل كان لهذا الحب أن يجعل الخليل يبحث عن الأعذار و التأويلات لاجتناب طاعة هذا الأمر الشاق والخروج من تبعته، لا طبعا، لقد نجح في الاختبار ووفى ما عاهد الله عليه وضرب للبشرية أروع المثل في صدق الإخلاص وتمام التسليم فاستحق بذلك أن يجعله سبحانه أمة للناس يأتمون به وبحسن فعاله.
قصة حاطب
عندما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش المسلمين إلى فتح مكة، قام الصحابي البدري حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بإرسال كتاب إلى كفار مكة يخبرهم بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرتكبا بذلك خيانة عظمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين حيث سعى في إفشاء سرهم، لكن كيف وقع ذلك.
لم يكن لحاطب من يحمي أقرباءه بمكة كما هو الحال لمعظم المهاجرين، فأراد أن تكون له يد عند كفار قريش قبل قدوم المسلمين، لكن كيف يمكن للمؤمن الصادق أن يخون الله ورسوله، كيف له إفشاء خطط المسلمين للعدو، الشيء الذي يعد من الخيانة العظمى وعقوبته في الإسلام أشد العقوبة.
لقد جعل خوف حاطب رضي الله عنه على قرابته يزين له أن هذه الخيانة لن تضر المسلمين شيئا وأن الله ناصر رسوله لا محالة فاستصغر هذا الفعل العظيم الذي أفتى معظم الفقهاء أن جزاء فاعله القتل، وقد استدلوا بقول عمر رضي الله عنه في حاطب لما انكشف الأمر دعني ‘أضرب عنقه يا رسول الله’ فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله بأن يقول مثلا إن ما فعل لا يستحق القتل، وإنما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله غفر لأهل بدر وتجاوز عنهم، فجعل الفقهاء هذا الاستثناء في الحكم خصيصة لحاطب لسابقته في معركة بدر كما قال رسول الله في الحديث،
وقد دلنا على صدق قول حاطب أنه إنما استحل فعل ما فعل لظنه أنه لن يضر المسلمين وأنه لم يفعله قصدا للخيانة وأنه لم يزل على إيمانه، تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم له لما قال له ذلك.
فلينظر أحدنا كيف جعل حب الأهل والحنو عليهم حاطبا الصحابي البدري يستسيغ ذلك التأويل ثم يقدم على فعل ذلك الفعل.
نصوص وحوادث متفرقة
لقد اختلف المسلمون إبان هجوم مشركي مكة ومن مالأهم على المدينة قبل معركة أحد، فكان من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمكثوا في المدينة وألا يبرزوا لملاقاتهم، ووافقه عبد الله بن أبي رأس النفاق على هذا الرأي، ورأى طائفة منهم البروز إليهم ومواجهتهم وجها لوجه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه لرأيهم، لكن لما خرجوا رجع عبد الله بن أبي بثلث الجيش بعد أن بث فيهم الأراجيف، والشاهد عندنا ليس هو رجوع المنافقين مع عبد الله بن أبي، لكن هو هَمُّ طائفتين من المؤمنين الصادقين وهما بنو سلمة رهط جابر بن عبد الله و بنو حارثة أن ترجعا عن الغزو وتتخلفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكادتا ان تفعلا لولا تثبيت الله لهما، وفي هذا دليل على تأثر المؤمنين الصادقين بالأراجيف، وعلى أن المؤمن وإن كان صادق الإيمان لا يأمن أن يتشرب قلبه بعض الشبه إن وجدت منفذا إليه، وقد قال تعالى عن المؤمنين و المنافقين في سورة براءة، ‘ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين’،
ففي هذه الآية دليل كذلك على أن من المؤمنين من إذا تعرض لفتن التثبيط والتخذيل استجاب لها واستساغها و تشربها ورضيها.
ولنذكر هؤلاء الذين عزموا على الغلو فقالوا لا نتزوج النساء و لا ننام ولا نأكل اللحم كيف عللوا مخالفتهم لهديه صلى الله عليه وسلم بكونه ليس مثلهم وكيف بعد ذلك ارتضوا قولهم واطمأنوا إليه، وينبغي التفريق هنا بين من عرضت له شبهة في عمل كمن هم بالخصاء، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم على الفعل، فيكون على بينة من أمره، وبين من فعل واستساغ معارضة الأمر كما في مثالنا هذا، إذ عارض هؤلاء الأوامر الكثيرة الحاثة على اتباع هديه صلى الله عليه وسلم والتأسي به وبسنته، وزين لهم بعد ذلك ما اتخذوا من سبيل، فاستحقوا النكير منه صلى الله عليه وسلم.
فلنرجع الى ما قبل البعثة، فنحن إن صدقنا ما كان لأبي عامر الراهب من اجتهاد وتحنث قبل مجيء الإسلام، وكذا لأمية ابن أبي الصلت مع ما معه كذلك من أقوال حسنة تدل على صدق نيته حينذاك، فلا يمكن تفسير إعراض كل منهما عن الإسلام وعماه عن رؤية الحق الذي جاء به إلا نتيجة ما كان كان في كل منهما من الأمراض الباطنة، الكبر وحب الرئاسة بالنسبة للأول أي أبي عامر والحسد بالنسبة للثاني حيث كان كل أمله أن ينال شرف ختم النبوة. وقد استحق الراهب بعد ذلك اسم الفاسق، فبعد أن كان متحنثا حنيفيا قبل البعثة، صار بعدها من أشد الناس عداوة للحق وأهله، وهو يحسب أنه يحسن صنعا، وقد قال تعالى ‘هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا’.
إن مرض القلب مرض كامن لا ندري متى يفعل فعله، لكن الظروف والمحن تبرزه، وقد يكون ذلك في آخر عمر المرء كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فلا يظنن أحد أن الله عز وجل يخذل وليه في آخر عمره أحوج ما يكون إلى رحمته وتثبيته، وقد قال تعالى ‘يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة’، كلا، إنه مرض القلب المتخفي الذي قد لا يظهر للعيان إلا آخر العمر، وقد قال تعالى ‘ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب’،
إن أعراض هذا المرض لا تكون في الغالب إعراضا مباشرا أو اعتراضا صريحا عن الخضوع لحكم الله ورسوله، بل تفعل النفس فعلها و يعمل الهوى عمله لتزيين القول الباطل وتسويغه وترجيحه بل قد يتعدى الأمر ذلك الى معاداة الحق وأهله، وكل ذلك دون أن يستشعر صاحبه ما هو عليه،
وغالبا ما يكون هذا المرض كبرا في القلب أو حسدا أو حبا لأمر من أمور الدنيا يطغى فيستولي على صاحبه كحب امرأة أو المال أو المنصب أو القبيلة أو المذهب او الطائفة أو الشيوخ، فيجعل هذا الداء القلب يميل ميلا عن الحق و يركن ركونا إلى الباطل تذرعا بحجج ومعاذير لم تكن ليكون لها وزن لولا تلك الأدواء.
وأخطر ما في هذا أن صاحب المرض لا يدري أنه مريض أصالة، ثم لا يدري بعد ذلك ما أداه إليه مرضه من رد للحق ومن اتباع للباطل، سواء أكان الحق من باب الاعتقادات أو الأوامر و الواجبات، بل يظن أنه على صواب و أن مخالفه على خطأ، وقد يعاديه أو يكفره أو يؤذيه أو غير ذلك كما مر وكما سيأتي في الأمثلة.
فلنذكر شيئا عن النصارى، فالواقع يقول أن من وصفه القرآن بأنه اتخذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله يدعي أن فعله ليس من اتخاذهم أربابا، وأن ما هو عليه من الأمر ما هو إلا حكم الله و مراده منه و أن رضا الله في ما ذهب إليه، فلم يمنع ذلك الظن وتلك الدعوى أن يوصم صاحبها لأجل ذلك بالشرك كما في سورتي براءة و آل عمران، رغم أن أحدهم لا يشعر بما آل إليه أمره، ولو قيل له أنه ممن يتخذ الانداد من دون الله لأنكره أشد النكير، لكن ما قيمة هذا الإنكار وهو لم يسلك سبل النجاة ولم يتخذ أسبابه ثم وقع بعد ذلك فيما وقع فيه من المهاوي، فهو قطعا غير معذور وإنكاره لا وزن له،
ولنذكر قصة عدي بن حاتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع آية ‘اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم’، فأنكر ان يكونوا أي النصارى ممن يفعل ذلك، وهذا لكونهم اقنعوا أنفسهم وزين لهم أن اتباعهم وإطاعتهم المطلقة لأحبارهم ورهبانهم إنما هي إطاعة لله و اتباع لأمره، حتى أيقنوا أن الدين الحق هو هذا لا شيء سواه ،ولهم فوق ذلك ما لهم من الحجج على ما ذهبوا اليه، كقول المسيح المزعوم لبطرس الحواري، انت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات، انتهى من إنجيل متى، ثم يزعم الكاثوليك أن بطرس أورث بعد ذلك هذه الهبة لرؤوس الكنيسة التي صار لها بموجب ذلك وغيره أن تحل ما تشاء وتحرم ما تشاء من عندها، فلم يعذرهم الله باتباعهم لهذه الشبهة وغيرها ولم تمنع عنهم وصف الشرك والكفر لأجل ما تبنوا من المذاهب، ونحن نعلم ما لبعضهم فوق ذلك كله من المجاهدات والأعمال، فهل نفعتهم؟ قطعا لا، ولنذكر قول الله عز وجل ‘وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية’، وكل هذا لاستحكام مرض قلوبهم الذي أعماهم عن رؤية الحق ومنعهم من الإذعان له.
ونحن نعلم ما كان لبعض العرب من الحجج في اتخاذهم وسائط بينهم وبين الله يتقربون إليها بالدعاء والقرابين لتقربهم بدورها إلى الله زلفى، وهم قد اطمأنوا لهذا الفعل ولتلك الحجج الواهية ورضوها فأعمتهم عن رؤية الحق رغم مجادلة القرآن لهم في ذلك، من مثل قوله عز وجل، ‘ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض، سبحانه وتعالى عما يشركون’، ومن مثل مطالبتهم بالحجة والدليل على فعلهم، فهل عذروا بتأويلهم؟ طبعا لا، وهل منعهم ذلك من الاتصاف بالكفر؟ لا طبعا.
أما اليهود فكلنا يعلم ما منعهم من مرض العلو والحسد من الإذعان للحق الذي جاء به الإسلام واتباعه، وذلك رغم ما معهم من العلم بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم وبصفاته، بل خيرهم من أقنع نفسه أن رسول الله إنما بعث للعرب خاصة. فانظر كيف عمل الحسد عمله في قلوبهم وجعلها تطمئن إلى هذه الحجة الواهية، فهل عذروا، لا طبعا، هل هم معذورون بما معهم من النصوص في كتابهم المحرف أن الله عز وجل قال ليعقوب زعموا ‘كلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك، ولا من فم نسلك ولا من فم نسل نسلك، قال الرب من الآن وإلى الأبد’ انتهى من سفر إشعياء، لا طبعا إنهم غير معذورين، لكن هواهم زين لهم تلك الحجج وجعلها محكمة وجعل ما يعارضها متشابهة، فقدمها عليها، ولا داعي للدخول هنا في كون هذا النص وإن كان صحيحا، وهو ما لا يمكن الوثوق به أبدا طبعا، فهو ظني الدلالة لا يعارض به القطعيات، لأن لفظ الأبد كثيرا ما جاء في الأسفار دالا على أمد محدود من المدة والزمن، لكن لهذا موضع آخر.
واذكر المرأة العاقلة بلقيس التي لم تنفعها أولا رجاحة عقلها، وقال فيها الله عز وجل ‘وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين’، فحبها لآلهتها كانت عائقا بينها وبين رؤية الحق واتباعه، ولولا ما سبق لها من ربها من الخير لأهلكها ذلك الداء العضال،
وقريب منه كفر بني إسرائيل وعماهم عن الحق الذي جاءهم بعد أن أشربت قلوبهم حب العجل،
وما ذكرنا من الأمثلة يستشهد بعمومه، والعبرة بالعموم، فالمرض قد يضعف صاحبه وقد يقتله أو يقعده، وحتى قد يقويه كما هو الحال حين يقلع المؤمن الصادق التوبة عما كان عليه من التقصير فيصير أقوى إيمانا مما كان.
ومما هو أدق مما ذكرنا، لما قتل أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الكافر الذي لاذ بلا إله إلا الله اتقاء الموت، فأجهز عليه أسامة وهو يظن انه اتبع الصواب بقرينة الحال التي كان عليها ذاك المحارب الذي ظاهره الشرك قبل قوله ما قال، فهل عذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لم يعذره رغم اجتهاده، وكذا في حديث المقداد بن عمرو، لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة شبيهة بحادثة أسامة، لو قتلته لأصبحت بمنزلته قبل ان تقتله، فلم يعذره رغم ظنه أنه متبع للحق، وهذا والله أعلم لتقصيره في اتباع النص الذي يأمر بالكف عمن قال لا إله إلا الله مطلقا دون تقييد أو تخصيص، وكأن حب الانتقام في القلب زين لهما تقييد هذا النص المطلق بتلك القرينة، دون دليل صريح، فاستحقا المؤاخذة.
ولنذكر الخوارج، فمما نعلمه من حالهم ومما أخبرنا به عنهم نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم موقنون أنهم متبعون لكتاب الله عاملون به وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يقرؤون القرآن يحسبونه لهم وهو عليهم، ومما يزيد الأمر عجبا كثرة عبادتهم وتورعهم الشديد في ما يعتقدون حرمته، فتجد أحدهم يتورع عن أكل تمرة ساقطة لذمي من ذميي أهل الكتاب بينما يسفك دماء أكابر الصحابة لما اعتقده حلالا بل قربة بل واجبا، فلك أن تعجب كيف ضل هؤلاء هذا الضلال المبين، فهل عذروا بكونهم يعتقدون أنهم على الحق أم جاء فيهم أنهم شر قتلى تحت أديم السماء وأنهم كلاب أهل النار؟ الثاني طبعا.
وقد كان من مرض أحدهم أن أداه غروره واعتداده برأيه أن ظن عدم العدل في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمين من في السماء، و كان أجدر به أن يتهم فهمه وميزانه، وقد قال تعالى في محكم كتابه ‘وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين’، وجاء عن أبي أمامة الباهلي موقوفا ومرفوعا في تفسير قوله تعالى ‘فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه’ قال هم الخوارج.
فليعلم كل منا أنه ليس بمنأى عن هذا، وأن الداء العضال الذي جعل بعض من مر يعمون عن رؤية الحق الواضح وضوح الشمس في الظهيرة قد يصيبني انا وقد يصيبك أنت، بل قد أكون أو تكون مصابا دون أن أشعر أو تشعر، وقد قال الخليل ‘رب اجنبني وبني أن نعبد الأصنام’، وكان من تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء اللهم أعوذ بك أن أشرك بك و انا اعلم و أستغفرك لما لا أعلم أو كما قال، ففي الآية دليل على عدم أمن السقوط حتى في اسفل المهاوي والاعتصام بالله من ذلك، وفي الحديث أن العبد قد يرتكب عظيمة دون أن يشعر.
خلاصة ما سبق
فلنلخص الأمر إذا، فنقول، إن اتباع الشبه والرضى بها لا يكون إلا نتيجة مرض في القلب، وغالبا ما يكون هذا المرض كامنا لا يدري صاحبه بوجوده حتى يأتي ما يستثيره ويبعثه فيظهر، وظهوره يتجلى في تزيينه للباطل وإلباسه لباس الحق عند صاحبه، فيقبله ويرضاه ويعمل بموجبه، أو أن يقوي الحجة الضعيفة أو الواهية فيقدمها على اليقينية الثابتة كما في المحكمات والمتشابهات، وكلما كان المرض أقوى مادة كلما كانت قابلية اتباع الشبه الباطلة والخطأ والهوى أكبر.
ثم كما مر كذلك، فعبادة المرء وورعه لا يعصمانه من هذه الأمراض، بل جل من مر، فيهم من إرادة الله ورسوله كل بحسبه، فما نفعتهم تلك النيات ولا ذاك الورع مع كونهم خلطوها بغيرها من الواردات فجاءت النتيجة أن انحرف بهم الطريق بحسب قوة تلك الواردات التي زاحمت ما كان لله وحده.
ومن أمراض القلوب حب الظهور، وحب الدنيا، والعصبية والكبر والحسد والعجب والغرور وغيرها من الأمراض التي قد لا يفطن لها صاحبها إن لم يتعاهدها في قلبه ويحرص على تطهيره منها.
ومما مر أن الذين اتبعوا الشبهات لا يكونون بالضرورة معذورين رغم أنهم لا يشعرون بخطئهم ولا ضلالهم، وذلك لأنهم لم يسلكوا سبل الحق أو قصروا في ذلك نوعا من التقصير. هناك استثناءات لذلك طبعا لكن كما مر في الأمثلة التي سبقت فأكثرهم مؤاخذ بما تبنى وعمل به من الشبه، فلا ينبغي التعويل على هذا والاستهانة به بله الاسترسال معه اتكالا على العذر بالخطأ والجهل، فالعذر وإن كان واقعا لبعض الناس فالبعض الآخر مؤاخذ قطعا كما مر.
هذا مع الإشارة والتنبيه إلى كون اتباع الشبهات يكون كذلك من العقاب الإلهي عن إعراض سابق وتولي عن الطاعة اقترفه صاحبه، كما جاء في آيات، كقوله تعالى ‘ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون’، وقوله ‘فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين’، وقوله ‘وقالوا قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم’، وغيرها مما جاء في هذا المعنى كثير.
العصمة مما سبق ذكره
وكأني بك تقول بعد كل هذا ما العصمة في الدين من كل هذه الأمراض إذا، إن كان المرء لا يستشعرها ولا يحس بما تسببه له من الانحرافات؟ فنقول،
لقد مر أن في عامة تلك الأمثلة، تكون تلك الانحرافات نتيجة مرض كامن من أمراض القلوب، فيجب أولا وقبل كل شيء تفتيش القلب والسعي الى تطهيره من أسباب مرضه، من حسد وغل وعجب وكبر وحب العلو والظهور و تعصب وغيرها من الأكدار والأمراض التي لا يسع المقام إلا للإشارة إليها، ومن أهم أسباب التطهر منها والسلامة من سمومها إمداد القلب بما يقويه من مواد حياته، ومن مواد هذه الحياة، حب الله ورسوله وإخلاص العمل له، وتحقيق التوكل عليه وخشيته و رجائه والانابة إليه والاعتصام به والرضى بقضائه وغيرها من أعمال القلوب التي هي أصل الدين ومنبعه ولبه وروحه التي لا قيام له إلا بها.
ثم لِيَسْعَ العبد بعد ذلك في سلامته من الاغيار،
وأعني بالأغيار كل ما يزاحم حب الله ورسوله من الأشياء الأخرى وإن كانت الأهل والولد، وقد قال تعالى ‘إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم’، وقال ‘قل إن كان آباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره’ الآية، فالمرء مجبول على حب أهله وولده وكذا على حب المال والوطن وغيرها من المباهج، لكن ذلك إن تعارض مع حب الله ورسوله والجهاد في سبيله فيصبح ذلك الحب عند المؤمن الحق لا أثر له ولا وزن ولا اعتبار، بل لا وزن له إن كان مما يعيق ويضعف حب الله ورسوله وإن لم يعارضه وينافيه.
وأعني بالأغيار كل ما كان يشغل المرء عن الله من الإرادات والهموم، وتذكر قوله تعالى ‘منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة’ وقوله ‘من كان يريد العاجلة عجَّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد’ وغيرها مما يعضضها من الآيات الكثيرة، و قول رسول الله صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار تسع عبد الدرهم الحديث، وكذا حديث من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه الحديث، وكذا حديث من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله عز وجل في أي أوديتها هلك، وأعني هنا ما يكون من الهموم الرئيسة في حياة الرجل والتي تشغله وتلهيه عن إرادة وجه الله والعمل له وللدار الآخرة، والتي كلما قويت كلما أضعفت الأخرى.
وأعني بالأغيار كل ما يستعين به المرء من دون الله لتحقيق مآربه، فالله خير معين وخير حفيظ وهو حسبنا ونعم الوكيل، وما اتخذ المؤمن من دونه من الوسائل فما هي إلا أسباب وجب الأخذ بها قطعا إطاعة لله وعملا بسنة رسوله وهديه، بل ليست وسائل من دونه على التحقيق فهو الذي سنها اولا وأمر بها ثانيا، لكن وجب التنبيه من جهة، أن اعتماد المؤمن في قلبه إنما هو على الله أولا وآخرا دون التفات إلى الأسباب والوسائط، ومن جهة أخرى وجب الاقتصار على الأسباب المشروعة دون غيرها.
هذه أمثلة تدلك على غيرها من أعمال القلوب التي ليس هذا محل التفصيل فيها، والتي ينبغي أن يكون ديدن المؤمن السعي إلى الارتقاء في درجات التلبس بحقائقها و كمالاتها، حتى يلقى العبد ربه عز وجل بقلب خالص سليم من الأكدار والعلل، علة حب غيره معه او ارادته بعمله، او التوكل عليه او خوفه أو رجاءه وغيرها مما لا ينبغي أن يكون إلا لله وحده، وهذا أول العبودية وآخرها، وما أعمال البدن إلا نتيجة حتمية لهذا الباطن الزكي.
إن من أسباب العصمة بعد طهارة القلب وإشعاعه بالحياة وسلامته من الاغيار كما مر، هو التوقف في مواطن الزلل وعدم الإقدام إلا بعد التثبت واتهام النفس ومحاسبتها محاسبة الشريك الشحيح، وما أكثر هذه المواطن.
وسنسرد فيما يلي بعضها، ومن منهج المؤمن كلما أقدم على أمر، وأقول أقدم وليس التبس عليه أمر، لأن من التبس عليه الأمر فهو يشعر به والفرض هنا أن متبع الشبهة لا يشعر، فمنهاجه وسبيله الاستمساك والاعتصام بالمحكمات دون المتشابهات، وباليقين دون الشك، وبالقطع دون الظن، وكل هذا مبني على قاعدة اتباع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، والغاية من هذا التوقف هو التبين والتثبت، لعل المرء يكون مقصرا دون أن يشعر، ولعله خلط اتباع رضوان الله بباعث آخر وهو لا يدري.
ومن المواطن صورة أن يكون في الباب نص واحد صحيح صريح لا معارض له فيدعه ولا يعمل بموجبه أو ببعض مدلولاته، اطمئنانا لما عنده، فليتساءل العبد لماذا تركه، أهو اتباع أحسن ما أنزل إليه من ربه أم اتباع مذهب شيخه أو طائفته أو هوى نفسه، أو عمل بقاعدة ورثها وتبناها وبنى عليها رده ذاك، فليرجع إليها إذا وليزنها بميزان الشرع، ثم لينظر هل لو سأله ربه عن تركه طاعة أمره وأمر رسوله، أو عن ترك تصديق خبره أو خبر رسوله هل تغني عنه تلك القاعدة شيئا، ثم ليتساءل، لماذا رد النص هنا وقبله واتبعه في مواطن اخرى، ولعل الصورة في الموضعين تكون واحدة إلا ما كان من ذلك الباعث الخفي الذي يكون حاضرا في إحدى الصور دون الاخرى.
ومن المواطن صورة أن يشوب ما جاء من عند الله بما جاءه عن طريق غير الله من المذاهب الفلسفية أو الكلامية أو العقلانية أو غيرها، وقد قال تعالى ‘اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء’، ولنذكر قصة عمر رضي الله عنه حيث جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من أهل الكتاب، فزجره صلى الله عليه وسلم ونهاه أشد النهي، آمرا له بتجريد مصدر التلقي على ما كان من عند الله ورسوله فقط دون غيره، ومن أعراض هذا الشوب أن يتأول المرء ظواهر الكتاب والسنة بناء على تلك المذاهب، ويكون ظاهر حاله كمن قال ‘إن أردنا الا إحسانا وتوفيقا’ أي توفيقا بين ما كان من عند الله وبين ما جاءه من تلك المصادر الأخرى، وكذب في قوله، فما أراد إلا اتباع ما جاءت به تلك المصادر وما تأويله للنصوص إلا وسيلة من وسائل التخلص من تبعاتها شعر بذلك أم لم يشعر.
فليتساءل أحدنا هل اتبع مع الله شيئا آخر من المذاهب والفلسفات أم جرد قلبه للحق الذي جاءه من عند الله ولم يخلطه بغيره، وليتساءل هل لو لم تكن تلك المذاهب موجودة و ولو لم يشب عليها و يعتقد نزاهة أصحابها وذكاءهم وتقدمهم أكان يكون قوله في كل المسائل التي جاء بها الشرع كما هي مع ما وصفنا من الحال، وليصدق أحدنا مع نفسه،
ومن المواطن صورة أن يكون في الباب نصان أو اكثر فيتبع الواحد أحدها أو بعضها دون الأخرى، فليتساءل أحدنا ما موجب هذا الإعراض أهو ترجيح أحب الأشياء إلى الله أم هو بناء على هوى المذهب او الطائفة أو السلطة الحاكمة أم غير ذلك،
ومن المواطن صورة أن يختلف أهل العلم فيتبع قولا من اقوالهم، فليتساءل أحدنا ما موجب هذا الترجيح، أهو اتباع أقرب الأقوال الى الحق وما يريده الله منه أم هو اتباع المذهب أو الشيخ أو هوى العامة لاستمالتها أو هوى الحاكم وما يمليه ليصيب من دنياه أم غير ذلك مما لو لم يكن لكان الحكم على غير ما هو عليه،
ومن المواطن صورة أن يكون ما فهمه القائل من بعض مسائل الشرع، أو ما فهمته طائفته المستحدثة، غير ما فهمته جل الأمة من قبله، كبعض مسائل النكاح والسياسة والحكم والولاء والبراء والردة وغيرها، فلا يتورع عن الخوض في ذلك مخالفا لمن قبله دون أن يفطن الى ما يلزمه حينئذ من كون المسلمين كانوا على ضلال منذ أكثر من ألف عام حتى جاء هو بفهمه أو فهم طائفته، هذا وغالب تلك المسائل تكون فيها نصوص محكمة من الكتاب والسنة، وغالب هذه الصور يخص أحدهم فيها العام أو يقيد فيها المطلق دونما دليل ذي بال.
ومرض هذه الفئة غالبا ما يكون مستحكما ومتشعبا، فيه ما فيه من عقدة الضعف أمام عدوه المنتصر وتبني مذاهبه والتأثر بحضارته، وحب موافقته، والسعي وراء إرضائه، وعلى صاحب هذه الصورة أن يعلم أن الدين لم ينسخ منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يستشعر أن الحق في المسائل لم يتغير عما كان عليه منذ ألف سنة، فليتساءل أين كان علماء المسلمين الجهابذة عن كل ذلك، أكانوا كلهم على ضلال،
ومن المواطن صورة اتباع المتشابه الذي يحتمل أكثر من معنى دون المحكم الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا، وصوره كثيرة جدا، وعلى صاحب هذه الصورة أن يرجع الى قلبه فيطهره لئلا يبقي ما فيه من الزيغ، وليتواضع لربه، وليتهم فهمه، وإلا، فلا سبيل لشفائه،
ومن المواطن صورة أن يكره شخصا ما لمخالفته ما هو عليه من المذاهب والعقائد دون تمحيص لأقواله ووزنها بميزان الشرع، ودون رد لما اختلف معه فيه إلى الله وإلى رسوله، ودون ترجيح وإيثار لما هو أحيانا بل غالبا أحب إلى الله ورسوله، من الاجتماع والألفة على ما قد يزين له قلبه من الجفوة والفرقة، ظانا من نفسه أنه يفعل ما يفعل غضبا لله ولحدوده وشرعه.
ومن المواطن صورة أن يكره حكما من أحكام الإسلام المعلومة كمن يكره التعدد أو النقاب أو غيرها من الأحكام التي هي قطعا مما أقره الدين وإن لم يوجب بعضها، فيجد نفسه تنفر منها، فليتساءل لماذا، وليذكر قول ربه ‘ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ‘.
ومن المواطن صورة أن يستفتي المرء من يوافقه في هواه دون من هو الأعلم بما أمره به مولاه، فليتساءل ما الباعث على اختياره،
ومن المواطن أن يعمل المرء عملا يعلم أن أهل العلم اختلفوا فيه من بين قائل بكفر من فعله وقائل بجوازه أو استحبابه ثم هو لشدة حبه للعمل وبغضه لمن خالفه لا يتكلف البحث والتمحيص في تلك المسألة ولا يلتفت إلى خطورة أمرها وأنه ربما يكون الصواب مع مخالفه فلا يعذره ربه لتقصيره وقلة تقصيه للحق، وتذكر وأشربوا في قلوبهم العجل،
فلنكتف بهذه الأمثلة الدالة على غيرها، ولنا فيما مر من الصور العديد من الأمثلة ارتأينا عدم سردها، ومن تتبع فرق الأمة وجد منها العشرات وربما المئات أو أكثر، وكلهم لسان حالهم كما وصف الله تعالى قوما فقال عنهم ‘فرحوا بما عندهم من العلم’ وقال ‘كل حزب بما لديهم فرحون’
وكذا من تتبع المسائل الخلافية بين أتباع المذاهب الفقهية فسيجد من أمثلة الصور المذكورة في العديد من المسائل، وكذا عند من يسمون تنويريين أصحاب المذاهب العقلية زعموا ما هو أبين وأوضح في اتباع الشبه والهوى.
وغالب هذه الصور يكون لأصحابها من الحجج ما يحسب عند نفسه أنها تسوغ له ترك بعض ما جاء من عند الله، فيفعله صاحبها وهو يحسب عند نفسه أنه يحسن صنعا وأن ما هو عليه هو الحق من عند الله، كمن قال تعالى فيهم ‘وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها’، فليتق الله أحدنا في نفسه وليَزِنْ مذهبه بميزان الشرع وليعرضه عليه، مع استحضار أن هذا العرض والوزن إن لم يصاحبه إخلاص وتواضع واتهام للنفس شديد فصاحبه هالك لا محالة، وسيكون فيه من الانحراف عن الجادة دون أن يحس بقدر ما فيه من أسباب تلك الأمراض الباطنة.
هذا و صلى الله على نبيه محمد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سجل تفاعلك مع المقال
تم تسجيل تفاعلكم مع "الشبهة ومرض القلب"
قبل بضع ثوان
التعليقات